نداء الوطن

التاريخ سوف يُبرئني

" أدينوني، لا يهم، التاريخ سوف يُبرئني "

مع قدوم الذكرى السنوية الرابعة على الاختفاء الجسدي للقائد فيديل كاسترو روز (Fidel Castro Ruz)، لا تخطر على بالي إلا هذه العبارة، التاريخ سوف يُبرئني، بهذه العبارة بدأ المُحامي فيديل كاسترو مرافعته أمام هيئة محكمة الكيان الدكتاتوري التابع لباتيستا. هي إحدى تلك العبارت التي تنبع من صميم المرء المقهور في لحظة تاريخية ما، وضمن ظروف موضوعية قاهرة لتُعبِر فيما بعد عن مبدأ الخلاص الجماعي الذي آمن به فيديل ورفاقه وكان المُحرك الأساسي لإنطلاق ثورة 26 يوليو.

قبل أن نبدأ بسرد تفاصيل المرافعة الشهيرة، علينا أن نسرد بشكل مُسهب عن تفاصيل سبقت المرافعة وهذه المُحاكمة الظالمة لفيديل. في 26 يوليو 1953 قام عدد من المقاتيلين (مئة وعشرون رجل وامرأتان) بالهجوم على ثكنات المونكادا الواقعة في مدينة سانتياغو دي كوبا، المحاولة التي أطلق شرارة الثورة ومن خلالها تم الإعلان عن حركة 26 يوليو، والتي باءت بالفشل وباستسهاد ستين مقاتل من بينهم  قائد الجناح المدني للحركة آبل سانتاماريا، راؤول كاسترو وآخرين نجحوا بالإنسحاب، وتم إنقاذ حياة فيديل من خلال ضابط أسود البشرة بحجة أنه العقل المدبر للحركة وتم اعتقاله. بالطبع الكيان الدكتاتوري التابع لباتيستا صَوّر الحدث في الإعلام وكأنه هجوم لمرتزقة وبأنه لم يُقتل سوا ستة أشخاص. هذا الحدث تم استغلاله بالشكل الصحيح من قِبل الحركات الشعبية واستخدامه لتجنيد المزيد من الثوار، ورفع من شأن فيديل، القائد الشجاع، حتى أن الحركات الشعبية رفعت شِعار من يريد مكنم الإنضمام، ها هو الباب مفتوح!.

حكاية هذه العبارة والتفاصيل المثيرة التي تدور حولها، تملك عدد لا متناهي من العِبر والمعاني التي فيما بعد تشكل أحد أهم التراكمات لقيام الثورة ونجاحها فيما بعد، مثلًا؛ المحاكمة لم تحصل في قاعة محكمة عادية كما ينُص الدستور، بل في قاعة داخل مدرسة التمريض التابع للمستشفى المدني في سانتياغو دي كوبا. عدا عن ذلك أن يترافع هة عن نفسه حيث لم يُسمح له بتعين محامٍ وتم رفض تقديم أي موارد وكتب قانون تساعده في كتابة مُرافعته، حيث أنه استغل قوة ذاكرته بربط أطروحات القانون الأساسية ببعضها مع بعض العبارات الثورية التي بدا فيها متأثرًا برسول الاستقلال خوسيه مارتيه.

ارتجل كاسترو البيان بأكمله، وغزله بأفكار الفقهاء وعدة عبارات من المُحرر/ رسول الاستقلال خوسيه مارتيه، الذي اتهمه فيديل بأنه المؤلف الفكري والمسؤول الأساسي عن الاعتداءات؛ وتجدر الإشارة هُنا أن مارتيه عام 1953 كان قد مر على استشهاده أكثر من خمسة عقود. عدا عن استخدامه لأطروحات مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي طوال خطابه.

“مبدأ عادل قادم من أعمق الكهوف، يمكن أن يكون تأثيره أكبر من جيش”

بعبارة التاريخ سوف يُبرأني أعلن فيديل الحرب على الحكومة، وبنفس الوقت وضع على الطاولة أبرز المشاكل التي تُعاني منها كوبا في حينها. في البداية، وضع صعوبات محاكمته في سياقها وبرر الهجمات التي يُحاكم بسببها. ثم ركز على إظهار الفوائد التي يمكن أن يجلبها توحيد القوى والمنظمات الاجتماعية التي اضطهدتها الرأسمالية؛ وهذا أدى أخيرًا إلى ظهور “حركة 26 يوليو”، والتي وحدت بدقة عدة تيارات بهدف وحيد هو التحرر.

“نفس الأشخاص الذين وضعوني أمامكم للمحاكمة والإدانة لم يمتثلوا لأمر واحد صادر عن هذه المحكمة”

بالإضافة إلى ذلك، اقترح فيديل خمسة قوانين تشكل برنامج الثورة في كوبا: إعادة السيادة للشعب من خلال إعادة العمل بدستور عام 1940، منح المستوطنين والمستأجرين ملكية الأرض، مشاركة العمال بنسبة 30٪ من أرباح الشركات التجارية الكبيرة، منح 55٪ من محصول قصب السكر للمستوطنين، مصادرة اموال الحُكام لتعزيز صناديق التقاعد والمستشفيات ودور رعاية المسنين.

“اليوم أقولها وبمرارة أن هناك جنودًا ملطخون حتى أصغر شعرة منهم بدماء الكثير من الشباب الكوبي الذين تم تعذيبهم وقتلهم”

كما وضع عينه على ست قضايا أسماها “مشاكل”: الأرض، الصناعة، الإسكان، البطالة، التعليم، الصحة. وشرح بالتفصيل كيفية علاجها، وبالطبع خصَ رأس النظام فولجنسيو باتيستا بعدة سطور، مستذكرًا الحيَّل التي أوصلته إلى السلطة، واصفا إياه بأنه “غير شرعي” ويفتقر إلى الضمير السياسي، وسرد الجرائم التي ارتكبها خلال حكومته.

“أن تغرق كوبا في البحر، على أن نوافق على أن نكون عبيدًا لأي شخص”

هذه الأحداث والتفاصيل نُقلت من خلال مارتا روهاس-صحفية كوبية- التي كانت أحد شهود العيان على هذه المرافعة، وتذكر أنه خلال المرافعة وحديث فيديل ومجيئه وذهابه في القاعة ينطر إليها ويقول هل أخذت الملاحظات؟ ترد عليه بالإيجاب، فيكمل حديثه. تلك التفاصيل التي تم تناقلها من خلال علب الكبريت على ورق مغموس بعصير الليمون، منحت الحياة فيما عُرف لاحقًا بخطاب التاريخ سوف يُبرأني، ونهاية أحد الأُحجيات الأروع في العالم. حُكم على فيديل بالسجن لمدة خمسة عشرَ عامًا، وأُطلق سراحه بعد عامين من المحاكمة نتيجة تأثير الرأي والاحتجاجات التي خلفها خطاب فيديل.

أخيرًا هل بَرَّأ التاريخ فيديل كاسترو؟، وهُنا اقتبس ما قاله قبل ستة عقود أمام تلك المحكمة: “أدينوني، لا يهم، التاريخ سوف يُبرئني”.

بواسطة
نداء الوطن
المصدر
وطن جميل العبد
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى