أخبار دولية

شخصيّة ودور الرئيس الأميركي: النار والدخان

إن مضمون كتاب «نار وغضب: من داخل البيت الأبيض في عهدة ترامب» يدين نظام الحكم في أميركا، ولا يدين فقط شخص دونالد ترامب. كيف يمكن لرجلٍ يفتقر إلى أي تجربة سياسيّة أو اقتراعيّة أو كفاءة علميّة (في السياسة أو القانون) أن يصل إلى سدّة الرئاسة الأميركيّة، وسيادة العالم؟ وكيف يمكن أن يكون الرئيس الأميركي رجلاً عديم المعرفة بالدستور والسياسة الداخليّة والخارجيّة على حد سواء؟ يزهو الأميركيّون، كما لاحظ ألكسي دو توكفيل في تجواله في أميركا في منتصف القرن التاسع عشر، بنظامهم السياسيّ ولا يرون أي نظام قرينٍ له.

لا، هناك من الأميركيّين (من الساسة ومن العامّة) مَن يظن أن أميركا وحدها هي الديموقراطيّة وأن الشعب هنا هو وحيد بين شعوب الأرض في تمتّعه بحريّة التعبير (المُحدّدة والمُقيَّدة). قد يكون الحلّ للمعضلات السياسيّة الأميركيّة في تحويل النظام السياسي الأميركي (الرئاسي) إلى نظام برلماني ديموقراطي، يبتعد عن الشخصانيّة التي تسم الانتخابات الرئاسيّة. النظام البرلماني، خصوصاً إذا ما اقترن بنظام النسبيّة، يجعل المنافسة تتركّز بين الأحزاب وليس بين الأشخاص، وبناء على صفات شخصيّة — حقيقيّة أو متخيّلة. المنافسة الرئاسيّة هنا، وحتى المنافسة بين الأشخاص في انتخابات مجلس النوّاب في الدوائر الفرديّة في الولايات، لا تكون مرتبطة بالمنافسة بين الحزبيْن (النظام الاقتراعي هنا يضمن ديمومة احتكار الحزبيْن للتمثيل السياسي، من المستوى المحلّي إلى المستوى الوطني). يمكن أن يكون الرئيس المُنتخب منتمياً إلى حزب، وأن تميل دفّة الانتخابات في الكونغرس إلى دفّة أخرى كما حدث في عام ١٩٦٨. الانتخابات ليست مرتبطة ببعضها هنا، وهكذا أرادها الآباء المؤسّسون. وصعود نجوم سينما وتلفزيون في عالم السياسة هو جانب من جوانب الشخصنة في السياسة الأميركيّة. واستطلاعات الرأي في موسم الانتخابات الرئاسيّة هنا تستفتي المواطنين والمواطنات عن: مَن تفضّل بين المرشحيْن لاحتساء الجعة معه؟ كأن المقترع يختار شريكة سكن أو حياة وليس رئيساً للبلاد. ولا يمرّ اختيار الرئيس بتصفية الدورتيْن، كما في الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة. فالمقترع محكوم بخيار بين شخصيْن، لا ثالث لهما. والنظام البرلماني البريطاني مثلاً يمنع بروز قادة أحزاب غير متحضّرين وغير عالمين بشؤون السياسة لأن المواجهة الأسبوعيّة في مجلس العموم لا يمكن أن تسمح ببروز أشخاص مثل بوش أو ترامب أو ريغان. المواجهة أو المناظرة الأسبوعيّة تتطلّب معرفة وقدرة لا يمكن فيها الاعتماد على مساعدين. واستبدال زعيم في داخل الحزب الحاكم في بريطانيا، حتى لو كان بحجم مارغريت تاتشر، ممكنٌ وسلسٌ.

أثار الكتاب الجديد الكثير من اللغط وسبّب الكثير من الإحراج للرئيس الأميركي، وحتى لبعض الجمهور الأميركي الذي يرى بلاده في صورة أزهى بكثير من واقعها. والصحف الكبرى، مثل «نيويورك تايمز»، تعاملت مع الكتاب بتناقض: هي أفردت المقالات الطوال لتغطية محتويات الكتاب لأنها تساهم في فضح الفوضى المستشرية في البيت الأبيض كما أنها تظهر مدى جهل وعدم رجاحة عقل الرئيس الأميركي، لكنها ذكرت ان هناك أخطاء في الكتاب، وأن كتابات سابقة للمؤلّف تضمّنت أخطاء أيضاً. من المشكوك فيه أن تكون كل كتابات المؤلّف قد تضمّنت خطأً من نوع أن العراق تملّك أسلحة دمار شامل، كما فعلت «نيويورك تايمز» في سلسلة مقالات للتحضير والتأجيج للحرب الأميركيّة على العراق. هناك أخطاء تمرّ وأخطاء تكلّف عشرات الآلاف من الضحايا. والصحيفة تكنّ ضغينة ضد المؤلّف لأنه في كتابه عن روبرت مردوخ انتقد ديفيد كار، الكاتب (الراحل) الشهير في شؤون الاعلام في الجريدة عينها. هذا الكتاب يندرج في سلسلة كتب عن إدارة أميركيّة من الداخل، ومِن مصادر في داخل البيت الأبيض. لقد بنى الصحافي في «واشنطن بوست»، بوب وودورد، مهنة وترك رفّاً من الكتب من نوع «الإدارة من الداخل» على لسان مصادر خاصّة فيها. والسؤال هو دوماً: ما دافع الذين يتحدّثون للمؤلّفين؟ لماذا يختار مسؤولون حاليّون وسابقون أن يتحدّثوا لكتّاب يسعون لكشف عمليّة صنع القرار الداخلي؟ الجواب هو أن الذي يتحدّث إلى المؤلّف —هذا أو غيره— يكسب تغطية متعاطفة وإيجابيّة فيما يخسر الممُتنع ويضمن أن الكتاب سيتضمّن ذمّاً بدوره وشخصه، أو تقليلاً من نفوذه. هذا ما أدركه كولن بول مبكّراً في سيرته المهنيّة وقد تحدّث إلى كل المؤلّفين مما ضمن له تغطية متعاطفة في كتب النوع هذا.

لكن ترامب ليس شخصاً عاديّاً، وغرابة أطواره باتت معروفة للعالم أجمع. ليست غرابة الأطوار نقيصة إلا إذا أثّرت على أداء رئيس يتحكّم بمقدّرات أكبر قوة في العالم أجمع. والكتاب الجديد، كما ذكّر دانا ميلابنك في «واشنطن بوست»، لم يأتِنا بصورة مفاجئة عن رئيس البلاد. هذا هو ترامب العلني الذي نراه يوميّاً على «تويتر»، باهتماماته الصغيرة ونرجسيّته وهوسه بالثناء على نفسه. لم يسبق أن عرفنا رئيساً لم يتخلّص من العداء ضد خصومه حتى بعد فوزه بالرئاسة —أو رئيس يزعم أنه تخلّص من العداء لخصومه (لا يزال جورج بوش الأب، مثلاً، يرفض الحديث عن روس بيرو، المرشّح «الثالث» في انتخابات ١٩٩٢، لأن بوش يحمّله مسؤوليّة خسارته). ترامب يتعامل كأنه لم يستحق الفوز، أو كأنه يعلم أن فريقاً في الرأي العام يشكّك بمصداقيّة فوزه. ترامب يجد صعوبة في تصديق فوزه، ويُسقط ذلك على منتقديه.

لكن هناك جوانب في شخصيّة ترامب عهدناها في رؤساء أميركيّين سابقين. هو ليس شخصاً يرتاح للتواصل مع الناس: وهو في ذلك مثل جون كينيدي (الذي كان يقول إنني رجلٌ لو جلست في مقعدي على طائرة لفضلتُ قراءة كتاب بدلاً من تبادل الحديث مع جيراني، خلافاً لجدّي من أميّ) أو أوباما الذي لم يكن يقترب من الناس كثيراً والذي ردّ على تصريح حب من صديقته في جامعة كولومبيا بالقول «شكراً». ترامب بذيء وسوقي في حديثه، مثله مثل ريتشارد نيكسون الذي لم يكن يوفّر أقليّة من ذمّه وتحقيره، أو مثل ليندون جونسون في خطابه عن السود، حتى وهو يحثّ أعضاء الكونغرس على التصويت لقانون «الحقوق المدنيّة» في عام ١٩٦٤. ولا ننسى خطاب ترومان الداخلي في حديثه عن اليهود، في ما هو الرجل الذي لعب دور القابلة القانونيّة لولادة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والذي قال عن دوره في ذلك: «أنا قورش. أنا قورش».

تبالغ الطبقة السياسيّة الأميركيّة ونخبة الإعلام ومراكز الأبحاث في تشخيص حالة ترامب. يصفونه بالمعتوه والجاهل والمريض نفسيّاً. لكن هل هذه حالة فريدة في سجلّ رؤساء أميركا؟ رونالد ريغان لم يكن يفقه لا في شؤون السياسة الداخليّة أو الخارجيّة وهو فاز بإعادة الانتخابات في عام ١٩٨٤ فيما كان النقّاد يسجّلون ظهور بوادر خرف عليه (وهم كانوا على حق، طبعاً). وكتاب وولف أذهل الطبقة الحاكمة لأن فريق الحكم في البيت الأبيض يناقش بانتظام مسألة تطبيق التعديل ٢٥ للدستور، والذي يخوّل الحكومة مجتمعة إقصاء الرئيس الأميركي واستبداله بنائب الرئيس في حالة ظهور ما يعيق قيامه بممارسة مهامه الدستوريّة، مثل تشكّل بوادر ضعف أو خلل عقلي ما عليه. ورئيس أركان البيت الأبيض في آخر سنة من حكم ريغان، هوارد بيكر، هو أيضاً ناقش مسألة تطبيق التعديل المذكور بعد أن ظهرت بوادر خرف واضحة على ريغان. ثم هل ترامب هو أوّل رئيس كسول ونابذ لقراءة التقارير والملفّات؟ ريغان وبوش الابن كانا جاهليْن أيضاً، والاثنان لم يحبّذا قراءة الملفّات أبداً (هناك إشارة في كتاب لو كانِن عن ريغان، وكيف أنه أهمل مراجعة تحضير لملفّ عن قمّة مع غورباتشوف لأنه انشغل في الليلة التي سبقت بمشاهدة فيلم «لحن السعادة» على التلفزيون، وجورج بوش الابن كان يفضّل تقارير المخابرات الأميركيّة عندما تكون مصوّرة وعلى أوراق الشدّة لجعلها أكثر جذباً لانتباهه).

يريد النظام الأميركي أن يُقنع العالم أن ترامب هو استثناء لقاعدة من الكفاءات التي توالت على منصب الرئاسة. وتتواطأ الصحافة الأميركيّة (مع بعض الصحافة العربيّة عن سذاجة) مع مقولة أن ترامب هو عبيط، وأن مَن سبقه في المنصب كانوا من صنفٍ آخر، وأن ترامب أحدث إخلالاً بنظام حكم محكم الصنع والتطبيق. لكن ترامب هو استثناء من حيث خروجه من عالم الأعمال والتلفزيون، وأنه لم يسبق له أن خاض انتخابات —من أي نوع— من قبل. لكن شخصيّة ترامب ليست مفاجئة. والفوضى في البيت الأبيض ليست جديدة أيضاً. بيل كلينتون مثلاً عيّن صديق طفولته (ماك ماكلرتي) رئيس أركان البيت الأبيض، ثم عاد وعيّنه سفيراً للسعوديّة بعد أن افتضح أمر فشله في إدارة شؤون البيت الأبيض. والبيت الأبيض في عهد ريغان لم يكن أفضل حالاً. كان ذلك عندما حاك موظّفون ما عُرف في ما بعد بفضيحة إيران – كونترا.

والكتاب هو عبارة عن تسريبات من داخل البيت الأبيض، أتى غالبها مِن ستيف بانون والموظّفة السابقة، كيتي ولش.

وصعوبة تكذيب ترامب لمضمون الكتاب، هي في أن القارئ يستطيع أن يعلم هويّة المصدر في كل مقطع من الكتاب، والتكذيبات التي صدرت لم تؤثّر على السرديّة العامّة والخلاصة السياسيّة. لكن حتى في موضوع التسريبات وتحقير الرئيس من قبل مرؤوسيه، فهذا ليس جديداً. هنري كسينجر كان يسرّب أخباراً عن أن نيكسون كان مخموراً في الليلة الماضية إلى الصحافة في واشنطن كي تتعاظم الحاجة إليه ليضبط من جموح الرئيس. وتسرّبت من البيت الأبيض في عهد كلينتون أخبار عن صراخه وصياحه وثورات غضبه، كما تسرّبت أخبار نسائيّاته. وذهب أوباما بعيداً في معاقبة المُسرّبين إلى درجة أن إدارته سجلّت رقماً قياسيّاً في ملاحقة صحافيّين قضائيّاً.

هناك في الكتاب ما لا تهتم به الصحافة العالميّة أو العربيّة. يتضح في الكتاب أن العجوز كسينجر لا يزال يلعب دوراً سياسيّاً مؤثّراً من وراء الستار. قد تكون هذه الإدارة أوّل إدارة أنعشت دور كسينجر. لكن ليست هذه أوّل مرة تقوم فيها إدارة أميركيّة باستشارة كيسنجر. فالرجل ترأس لجنة دراسيّة عن وضع أميركا اللاتينيّة في عهد ريغان، كما أن هيلاري كلينتون، الساعية دوماً للظهور بمظهر الصقور في السياسة الخارجيّة، كانت تعتمد على مشورته أثناء تولّيها لوزارة الخارجيّة. لكن اعتماد جارد كوشنر عليه يبدو غريباً بعض الشيء لأن الأخير غير عليم بشؤون السياسة الخارجيّة، مما يجعله أسيراً لمشورة كسينجر. ويبدو أن الأخير، الذي راكم ثروة وأسّس إمبراطوريّة استشاريّة من وراء علاقاته التجاريّة والسياسيّة مع الصين، هو الذي رتّب أمر لقاء القمّة بين الرئيس الصيني وبين ترامب. ومن المنطقي أن نتوقّع أن يكون كسنجر يدلي أيضاً بدلوه في شؤون الصراع العربي ــ الإسرائيلي.

والكتاب مهم من حيث تأكيده على سطوة الدولة الإمبراطوريّة. كل قرارات السياسة الخارجيّة والأمن تمرّ عبر نفق صنع القرار الامبراطوري الذي يتأثرّ قليلاً فقط بشخصيّة الرئيس. ويظهر في الكتاب أن ترامب كان معارضاً لقصف سوريا، لكنه رضخ لقرار فريق الأمن القومي في البيت الأبيض (وخارجه)، كما أنه رضخ في مسألة زيادة عدد قوّات الاحتلال الأميركي في أفغانستان، بالرغم من معارضته الشخصيّة. يريد أعداء وخصوم ترامب أن يبالغوا في تأثيره في صنع السياسية وفي تلطيخه لسمعة أميركا، لكنه هؤلاء هتفوا لترامب عندما قصف سوريا وعندما زاد القوّات الأميركيّة في أفغانستان وعندما ناصر حركة الاحتجاجات في إيران. أي أن خصوم ترامب وأنصاره يتفقون على ما يتفق عليه جهاز الأمن والاستخبارات والعسكرتاريا الأميركيّة.

لكن هناك جوانب لشخصيّة ترامب تميّزه عن غيره. هو ليس وحده المهتم بالعلاقات العامّة وصورة الإدارة، لكنه يبدي اهتماماً فائقاً بهذا الجانب من الحكم. وكان لريغان مستشار متفرّغ لشؤون العلاقات العامّة، ماكيل ديفر، وهو ترقّى في السلّم الوظيفي إلى أن أصبح نائباً لرئيس هيئة أركان موظّفي البيت الأبيض. وهو روى في كتابه عن تجربته في الحكم أن فريقاً من الموظّفين كان يستطلع المكان (في الدول الأجنبيّة) الذي كان ريغان سيلقي فيه خطبة ويأخذ معه فساتين وبزّات رسميّة كي تتناسق ألوانها مع ألوان الخلفيّة في الطبيعة من أجل تحقيق تغطية تلفزيونيّة أفضل. ومستشار بيل كلينتون، ديك موريس، روى في كتابه «خلف البيت الأبيض» كيف أن كلينتون قضى أيّام عطلته في عام ١٩٩٦ في الطبيعة في متنزه في وايومنغ وذلك من أجل تعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة في أوساط الناخبين الذين يحبّون الطبيعة (والقرار كان بناء على استطلاعات رأي معمّقة لتبيان نقاط ضعف موقع كلينتون في أوساط الرأي العام حينها).

مشكلة شخصيّة ترامب ظاهرة نعاني منها في بلادنا، كما تعاني منها أميركا. يرث الثري ملايين عن والده ويراكم عليها ملايين ومليارات. والثروة باتت في العرف العام صنواً للذكاء والكفاءة، وهذه من إنتاجات الفكر الرأسمالي، أو من نتاج بنيته الفوقيّة. يصبح كل جامع ثروة طامحاً سياسيّاً، طلباً للجاه والسلطة وطمعاً بالمزيد من المال خصوصاً في بلادنا حيث لا حدود أو ضوابط على ثروة الثري عندما يدخل إلى السلطة (تضاعفت ثروة الحريري أضعافاً مضاعفة بعد سنواته في الحكم). وترامب افتتنَ بنفسه في سن مبكّرة وكان يبتاع صفحات من «نيويورك تايمز» للتعبير عن آرائه في التجارة الدوليّة. أراد أن يغيّر من سياسات أميركا، لكن عن بعد يومذاك.

ترامب ليس غريباً عن أميركا، وليس بعيداً عنها. يريد إعلام النخبة إقناع العالم أجمع ان ترامب لا يمتّ بصلة إلى السياسة و«الثقافة» في أميركا. لا، ترامب ابن اميركا (البار) ومرآة لها. هو أميركا عندما تنظر إلى نفسها في المرآة. هو أميركا لكن من دون «روتوش» أو تجميل أو ثنايا من الدعاية السياسيّة المركّزة. هو المكنون الأميركي الصامت، أو المُرتدع بوجه سياسة «الصوابية السياسيّة» التي تفرض نفاقاً ليبراليّاً على الخطاب الأميركي. ترامب هو نتاج عقود من تنامي الغضب والنقمة في صفوف الرجال البيض الذين يرون أنهم يخسرون كل شيء بسبب ازدياد أعداد الملوّنين — خصوصاً ذوي الأصول المكسيكيّة — في صفوف الشعب الأميركي. عقدان أو ثلاثة من الزمن ويفقد الرجل الأبيض الأكثريّة. لكن خوفه ينمّ عن قلق وجوديّ من تغيّر الطبيعة السكانيّة. هناك مبالغات بأهميّة السنة أو العقد الذي تصبح فيه الأكثريّة أقليّة في أميركا. وعندما يحدث ذلك في منتصف هذا القرن، هل سيغيّر ذلك من طبيعة الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة للبيض الذكور في البلاد؟

يُشكّل ترامب إحراجاً لأميركا حول العالم. هذه إمبراطوريّة تحاول دوماً التوفيق بين حروبها المستمرّة وبين سعيها لكسب ثقة وتأييد الناس حول العالم. هي تتنافس بوحشيّة لكنها ترى في نفسها تجسيداً للعدل والإنصاف. هذه بلاد تزهو برأسماليّتها وتزيد من وحشيّتها لكنها تظنّ أنها المثال الاقتصادي والسياسي الأمثل. وترامب في سوقيّته وصراحته لا يتلاءم مع الخطاب الذي تعتمده الامبراطوريّة في الحديث عن نواياها وعن طموحاتها وعن صراعاتها.

يروي المؤلّف أن قرار نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس كان مفروضاً أن يتم في اليوم الأوّل من الحكم. كان هذا بإصرار من ستيف بانون. لكن القرار لم يكن متعلّقاً بالسياسة الخارجيّة لأميركا، بقدر ما هو قرار سياسي داخلي يتعلّق بمحاربة اليمين الجديد لثوابت تقليديّة في السياسة الخارجيّة والداخليّة: قرار نقل السفارة هو الجانب الآخر من قرار بناء الجدار. إن القسوة في التعامل مع المهاجرين كانت سمة من سمات إدارة أوباما التي طردت من المهاجرين أكثر مما طرد بوش (وربما ترامب عندما يكمل ولايته —إن أكملها). لكن أوباما كان يطرد المهاجرين وهو يتحدّث عن فوائد الهجرة إلى البلاد. يريد ترامب وفريقه تغيير قواعد اللعبة لإثبات أن الرجل الأبيض هذا لا يخشى من ثوابت الليبراليّة والملوّنين في البلاد. لكن هل قرار نقل السفارة غيّر من الانحياز الأميركي التقليدي لاحتلال وعدوانيّة إسرائيل؟

هناك أزمة سياسيّة حقيقيّة تعتمل في داخل الطاقم الحاكم في واشنطن. ترامب كرّس شقاقاً في داخل الحزب الجمهوري، كان «حزب الشاي» قد دشّنه قبل سنوات. ترامب هو «حزب الشاي» في الحكم، وهو في صدد تغيير وجهة سياسة الحزب الجمهوري. النظام السياسي هنا لا يسمح ببروز حزب ثالث. ليس أمام ترامب إلا الاستيلاء على الحزب الجمهوري ودفعه نحو نسق من اليمين الجديد في أوروبا. لكن ما يفعله ترامب لا يغيّر ولا يقلّل من أعمال وحروب الإمبراطوريّة الأميركيّة التي باتت تعمل وفق نظام التشغيل الذاتي.

لكن ما يميّز حكم ترامب —حسب سرديّة الكتاب— هو طغيان عناصر قياديّة مؤثّرة على القرار من الذين لا خلفيّة سياسيّة فعليّة لهم، مثلهم مثل ترامب. هذا سيسمح بدرجة من التجارب في السياسة الخارجيّة، كما أنه سيعكس طبيعة الفريق الذي يحيط بترامب والذي يعتبر إيران العدوّ الأوّل (بدأت أميركا بتليين لهجتها إزاء كوريا الشماليّة كما أن المفاوضات السريّة بين الطرفيْن —ومن دون تنازل من قبل كوريا الشمالية— لم تتوقّف). العسكريّون الذين يحيطون بترامب يحمّلون إيران المسؤوليّة الكبرى عن أعمال المقاومة التي أدّت إلى طرد القوّات الأميركيّة من العراق. والإمبراطوريّة الأميركيّة تسمح باختبارات وتجارب إذا كانت موجّهة ضد عرب ومسلمين، بالرغم من نظام التسيير الذاتي. وتبنّي محمد بن سلمان (يتبيّن في الكتاب مدى ضلوع الحكومة الأميركيّة في صعود محمد بن سلمان وإقصاء محمد بن نايف) هو تجربة أميركيّة جديدة تطيح بعقود من الديبلوماسيّة المحافظة. لكن هل تتضارب مصالح الامبراطوريّة مع نزوعات ترامب للتجارب والمغامرة؟ عندها فقط، يمكن تطبيق التعديل الخامس والعشرين للدستور. عندها تتحوّل دفّة الامبراطوريّة إلى وظيفة التشغيل الذاتي.

* أسعد أبو خليل كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@

نقلا عن الأخبار

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى