في ذكرى استشهاد ناجي العلي
إن القيمة الفنية الملتزمة التي حملتها ريشة الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي جعلت منه منبراً وضاءاً لتعرية كل الاوجه من انتهازيتها و محاولاتها الانصراف لمصالحها الشخصية على حساب قضية شعب رفض ان يكون ذليل الإحتلال.
و بطبيعة الاوضاع التي خرج منها ناجي العلي انسبغت عليه تلك الأنفة و العزة و الإلتزام الجذري بقضايا أمته و شعبه، فهو ابن مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين بكل ما يحمله المخيم من تركيبة نفسانية ثورية و حالة نضج متقدمة و ملزمة.
و عند تتبع حياة هذا الفنان الذي بكل تأكيد دخل العالمية ممثلاً للريشة الفلسطينية و الأممية الصارخة بوجه سماسرة الاوطان و سالبيها، نتأكد بأن شخصاً يعيش حياة ناجي المليئة بالفقر و العوز، المرض و الإرهاق ،التهديدات و الخطر و المجازفة و الحذر لن يكون سهلاً عليه ان يشق طريقه، و لذلك لم يكن لذلك الطفل الصغير ملاذاً للرسم سوى أزقة المخيم و جدرانه الرطبة، فَدَبَّ بشبقٍ غير مسبوق يرسم ما يشعر به، فتارة يرسم خريطة فلسطين، و تارة اخرى يرسم اطفال المخيم المنسيين على اطراف قنوات الصرف الصحي النتنة التي تشق الطرق.
و لو تعمقنا في نفسية ناجي بعيداً عن تاريخه الذي يعرفه معظمنا، لوجدنا اسئلة مهمة تطرح ذاتها بكل شجاعة، مالذي حرض ناجي على ريشته؟ و هل كانت النتيجة تستحق هذا العناء؟ أما السؤال الأول فالإجابة عنه تعتمد على قراءة تاريخ العدوان و المخططات الاستعمارية التي تعرضت لهما فلسطين، و دراسة المشاهد التي عايشها هذا الطفل و التي بالتأكيد ولدت لديه حالة معينة و تراكمية منتفضة من المشاعر، فإن نفسية الانسان و معالمها تتأثر بشكل كبير بما تعايشه في ماضيها من حوادث و عوارض مختلفة .
و في حالة ناجي العلي ، فإن طفولته على وجه التحديد كانت قاسية جداً ، فلم يعرف ناجي يوماً معنى الامان و الاستقرار ، و انما عاش الهجرة القصرية من بلدته في فلسطين و عاش التنقلات المتعددة ابتداءاً من مخيم عين الحلوة و الى اماكن عديدة ، و من ثم عاش حياة السجن وحيداً منعزلاً مع ذاته ، متمسكاً بطبشورته يلوّن بها جدران الزنزانة بخواطره و افكاره ، و علاوةً عن كل تلك الظروف ، لم يستطع ناجي اكمال تعليمه بسبب الظروف الفقيرة التي كانت تعيشها عائلته ، فلم يكن فناننا الفذ إلا عاملاً يصلح السيارات ، و في احيان اخرى لا يجد ثمناً لسجائره ، و بمجمل الحديث فإن كل تلك الظروف تقود الانسان لخيارين ،إما الكدّْ و التعب ، و إما الإستسلام و التراخي . أما التساؤل الثاني فإن الإجابه عليه تتجلى في قراءتنا لطبيعة الانسان و ماهية علاقته مع ذاته و مع المجتمع ، و هنا تتجلى لدينا شخصية ناجي الناكرة للذات المؤمنة بالعمل من اجل المجموعة ، و هذه التركيبة المميزة نادراً ما تتشكل إلا في اوساط الفقراء و المتعبين الذين يتشاركون الفقر و يتقاسمون الظروف الصعبة ، يبكون سويّاً و يعيشون سويّاً و اذا كانت الظروف جيدة قليلاً يدفنون سويّاً ، و ناجي كان واحداً منهم ، و لم يكن إلا من اجلهم و لأجلهم ، شعبه الذي شاركه كل المآسي التي تعرض لها ، و من هنا تتجلى قيمة النتيجة لدى شخصية ناجي العلي ، فلم يكن ناجي الملتزم فريسة لتأثيرات العولمة و تعزيزها لمفهوم الفرد بعيداً عن المجموعة ، فتعاظمت النتيجة لديه و اصبحت آلهةً يسعى للوصول اليها بكل ما يحمل من حماسية و إيمان ، كيف لا ! و هي فلسطين. و في الحديث عن عمق رسومات ناجي العلي يتجلى لدينا فن الرمزية السهل الممتنع ، تماماً كما المقطوعات الموسيقية السريعة القصيرة ، كالقصة القصيرة لدى رفيقه غسان كنفاني ، فكل تلك الفنون تتشارك في زخم المعنى و كثافته على مساحة صغيرة من ورقة اللحن ، حبر القلم و دماء ريشة الفنان ، فبهذه الطريقة المميزة كان حنظلة و كانت فاطمة و ما سواهم من الشخصيات المفتعلة الحقيقية التي استعملها ناجي في تعبيراته و رسائله الصاخبة التي لا تعرف للإعتبارات طريق و لا تؤمن سوى باعتبار واحد ، و هذا الاعتبار الذي شكل الخط الاحمر الوحيد لدى ناجي ، هو الوطن .
في صدد الكلام عن فنون ناجي ، لن اتطرق لنقد رسوماته ، فلست أهلا لذلك و لا اعتقد ان مقالة كهذه يمكنها التطرق لأربعين ألف رسمة كاريكاتورية و ربما اكثر ، و لذلك فإن للنقاد الفنيين حيزهم الخاص و مآخذهم على رسومات ناجي ، و كذلك للسياسيين مواقفهم الكثيرة و المتعددة من ناجي و لوحات ناجي ، و بالنسبة لي فإن خلال كل حياة ناجي السريعة و عطائه الفني لم يحد يوماً عن فلسطينيه و شعبه فهو الذي يقول “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة” و اعتقد بأن ناجي اهتدى لطريق ثورته و خاضها بشجاعة لا تختلف عن الذين حملوا البندقية.
بالنهاية يتسعر السؤال و تنتفض علامات الاستفهام حول استهداف ناجي في أزقة لندن و استشهاده إثر رصاصات الغدر التي اخترقت عينه التي كان يرى بها الوطن ، و لكن لا اعتقد اننا في صدد اسقاط الإتهامات على شخوص معينة ، بالقدر الذي نعلم كما يعلم الشعب الفلسطيني و رفاق ناجي ، بأن الذي استهدف ناجي هو ذاته من استهدف غسان كنفاني و خليل الوزير و ابوعلي مصطفى و غيرهم الكثيرة من القادة و الرواد ، هو ذلك العدو الفاشي الذي يترقب الرقاب الصارخة بوجهه ليقطعها بتواطؤا من العميل و الكمبرادور العربي و الفلسطيني المتحالف مع رأس المال و الساقط في مستنقع المصالح الذاتية المتقاطعة بالتأكيد مع الوجود الإحلالي للكيان الصهيوني ، و لذلك فإن دراسة تركيبة ناجي و نهجه الراديكالي و استشفاف المآثر و الدروس من رحلته الطويلة القصيرة هي رد قليل من الجميل لمسيرة و روح ناجي العلي ، فسلامٌ و ألف قبلة الى جسده المتعب في ذكراه التاسعة و العشرين.