عن جدوى التحذير من تزييف الوعي في الأعمال الفنيّة
تكثر الدعوات إلى مقاطعة الأعمال الفنيّة والدراميّة التي تحمل رسائل تطبيعيّة أو التي تُسهم في تبييض صورة العدو أو التي تُسيء للقضايا الوطنيّة، تلك الدعوات ومن حيث النتيجة فإنها تحمل احتمالين: إمّا النجاح في تحقيق الهدف بالمقاطعة، أو الإخفاق في منع تلك الأعمال، وهذا يعود إلى عوامل موضوعيّة تتجاوز قدرة الجهات الداعية للمقاطعة على الرغم من أحقيّة ما تدعو إليه.
قد تنجح حركات المقاطعة (مقاطعة العدو) في منع أي عمل فنيّ كعرض فيلم في دور السينما، أو بفعل الضغط على بعض القنوات، أو على تلك الجهات المانحة لإجازة عرض الفيلم أو العمل الدراميّ الفنيّ؛ ولكن لا ينطبق ذلك على سياسات القنوات الفضائية الكبيرة أو شبكات عالمية متخصصة، للأسف اتخذت من التطبيع والهروله له نهجًا، وبالتالي أصبحت إحدى أدوات الترويج له.
ولكن، حين تناشد حركات المقاطعة أو تدعو إلى مقاطعة عمل فني معيّن لسبب خرق هذا العمل معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع مع العدو، فإن ذلك بحد ذاته يعتبر نجاحًا ولو نسبيًا، ولإن إثارة الموضوع وتفنيده، سينتج ولو بالحد الأدنى عند الشخص غير المضطر بالتجاوب لتلك النداءات، فإنه سيترك أثرًا بالضرورة يتمثل بالمتابعة والقراءة النقدية أو من زاوية مختلفة عمّا يهدف إليه القائمون على العمل.
وهنا لا بد من الاستعارة ببعض الأمثلة التي تدعم الفكرة، فقبل حوالي ثلاث سنوات نجحت حركات المقاطعة العربية ومن بينها الأردنية بمنع عرض فيلم “المرأة الخارقة” والذي لعبت بطولته المجندة الصهيونية غال غادوت، هذا الفيلم كاد ان يغزو دور السينما العربية، لولا النجاح المُحقق، حيث تلخصت أحداثه بتسليط الضوء على الممثلة بجوانب “ايجابية” كأنسنتها وبوصفها امرأة خارقة للجمال والحب وغيرهما، وبطبيعة الحال أغفل جوانب أهمها أنها شاركت كمجندة في الجيش، ومشاركتها في الحرب على لبنان ودعمها للحروب على غزة؛ ولأن المشاهد دائمًا يتعاطف باللاوعي مع البطل، وبالتالي سينجح القائمون على هذا العمل!
كذلك، عرضت شبكة نتفليكس العام الماضي مسلسلًا حمل اسم الجاسوس “the spy”، بحيث لعب بطولته الجاسوس “ايلي كوهين”، فمن يدقق بالوعي سيجد بأنه باللاوعي قد تعاطف مع الجاسوس، وربما سيبرر إرساله كجاسوس، فقد بدأ المسلسل في تبرير اسباب إرساله إلى سوريا وهو ردًا على “الاعتداءات السوريّة على الأهداف الصهيونية”، مرورًا بإبراز الجوانب الإنسانية والإجتماعية للجاسوس المرتبطة بعشقه لزوجته وانتظار مولوده ومن ثم انتظار أسرته ان يعود اليها سالمًا، وانتهى بمطاردته واعدامه، فما رسمه المسلسل من تفاصيل جعلت من المتلقي باللاوعي أن ينشّد للجاسوس و” يتعاطف معه”، كأن يتمنى أن لا يتم إلقاء القبض عليه!
والمثال الأخير، وهو مسلسل “أم هارون” والذي تم الإعلان عنه مؤخرًا ويُعرض حاليًا، هذا المسلسل ومن خلال الترويج له، فإن أحداثه تتمحور بالدعوة إلى التعايش مع العدو الصهيوني، وذلك من خلال طرحه للقضية على أنها قضية ذات طابع ديني، حيث يتم فيه تمييع الصراع مع العدو؛ فالهدف الذي يرمي إليه هذا المسلسل سيجعل من المشاهد أن يقبل بتبرير “الهجرة اليهودية” العربية إلى الكيان الصهيوني لاعتبارات أن خيار الهجرة كان حلًا لهروبهم من “الاضطهاد” الذي مورس ضدهم في بلدانهم العربية، وهذا بطبيعة الحال سيخدم العدو ويمنحه المزيد من الامتيازات ليفعل ما يفعله من تهويد وبناء مستعمراته وجرائمه التي لا تنتهي.
إذن، فإن خلاصة القول بأن الدعوات لمقاطعة الأعمال الفنية المشبوهة والمزيفة والمضللة للواقع، أو التي تصب في خدمة العدو، فإن تعذر النجاح بالمقاطعة، فلا بأس بأن يتم التعامل معها على أنها دعوات ضمنيّة للقراءة النقدية كي لا ينساق المشاهد وراء الهدف المشبوه الذي يسعى إليه القائمون على هذا العمل.