سياسة العقوبات العوراء ضد إيران
يقول بعض الخبراء الغربيين، بأن من فشل في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسورية، يكون قد فقد عقله إن إعتقد يوما، أن بإستطاعته أن ينجح عسكريا في إيران، هذا البلد المتماسك الفخور، ذي الثمانين مليون نسمة. ويشككون فيما إن كانت الدوائر الغربية بفرضها المزيد من العقوبات الاقتصادية قادرة على إيقاف البرنامج النووي لإيران!!
لقد أثبتت التجارب السابقة أن العقوبات المحكمة القاسية لم تطح بصدام حسين ولا بسلوبودان ميسولوفيتش ولا بمعمر القذافي، ولا ببشار الأسد، بل أفضت بشكل أكيد إلى الحرب في هذه الدول الأربعة. بينما تطبق العقوبات على إيران منذ أكثر من أربعين ولم تؤت أكلها، بل أنها كثيرا ما جلبت نتائج عكسية من حيث تعزيزها للحكم المركزي الأوتوقراطيي.
أمام اللوبي الأمريكي المساند لإسرائيل، غالبا ما أظهر الرؤساء في واشنطن، إثناء فترات الإنتخابات وبعدها، نيتهم بمعاقبة طهران تجاريا وماليا، وتبعوا ذلك بالتهديد بإدراج اسم أي طرف يتعامل تجارياً معها في القائمة السوداء.. ورغم إعتبار الحصار الإقتصادي على الدول شكلا من الإرهاب في كثير من المواثيق الدولية، إلا أن واشنطن قد فرضت على الاتحاد الأوروبي -بالإكراه أو بالمراضاة- الإشتراك في لعبة الحظر الخطيرة، خاصة إحكام الحصار على صادرات إيران النفطية.
ولكن في كل مرة إشتدت فيها العقوبات، كانت تشكل حافزاً كافياً لحمل طهران على تطوير مقدراتها التقنية والإنتاجية، وإجراء مزيدا من التجارب على صواريخ متوسطة المدى في منطقة الخليج، محملة في كل مرة برؤوس أكثر دقة وشراسة، وإجراء مناورات تحاكي إمكانية إغلاق مضيق هرمز، الممر المائي الذي تنساب من خلاله ثلث كميات النفط العالمي المحمول بحراً.
يتساءل البعض على نحو جاد: ماذا تفعل حكومة إيران المهددة وغير الآمنة، والتي تمتلك التقنيات والإمكانيات، أمام هذه التحديات؟ ماذا تفعل إيران المحاطة بقوى مسلحة نوويا، أو بقوات مصنفة نووياً، أليس السعي إلى الاستحواذ على مقدرة مشابهة؟ إذن لماذا التعجب؟ ألا يحق لها التوجه لإمتلاك السلاح الرادع؟
السلاح النووي إستعمل لمرة واحدة في التاريخ على يد القوة الإمبريالية العظمى في العالم، والمرة الثانية، لوح به ووضع على طاولة البحث، بسبب نفس هذه القوة العظمى نفسها، وذلك عند محاولتها إلتهام كوبا في العام 1962 (أزمة خليج الخنازير) -ولكن في تلك المرة، فقد ساعد إمتلاك نفس السلاح من قبل الإتحاد السوفييتي، على منع اندلاع الحرب الوشيكة.
إيران تقول صراحة: لست مع أي سباق للتسلح، ولكنها ترى إسرائيل المعادية، تمتلك المقدرة النووية، وهذا سبب كافٍ لسعيها لإمتلاك ردع حاسم في الصراع المفتوح، قد تكون الصواريخ البالستية في هذا الوقت، ولكن إلى متى؟
تخوف واشنطن والغرب، من أن يقوم سلاح الجو “الإسرائيلي” بقصف المفاعلات النووية الإيرانية، الأمر الذي قد يؤخر عملها لبعض الوقت، ولكن من شأن مثل ذلك جعل إندلاع الحرب في الإقليم كله أمراً حتمياً في نهاية المطاف. وتستطيع إيران الإعتماد على صواريخها الخاصة، التي يتمنى الغرب عدم وجودها، وحاول تعطيل إنتاجها لفترة طويلة،و لكن من الصعوبة بمكان حرمان إيران من “حقها الشرعي” في امتلاك صواريخها الخاصة. وفرض حالة من الردع النسبي، يجعل “إسرائيل” والدوائر الغربية تبقي خيار الحرب مستبعدا، وإن أبقت على لهجة التصعيد الحربي قائمة.
التساؤل الإشكالي لأربعة عقود عند الدوائر الغربية، بقي كيف نتعامل مع القيادة “المتشددة في إيران” ثم تطور إلى كيف نمنع إيران من إمتلاك السلاح النووي؟ وما يزال الجواب غير شافٍ بالمطلق، وجميع المحاولات حتى الآن غير ناجحة، رغم التأثيرات المؤلمة للحظر والعقوبات الإقتصادية على إيران وحتى على الأطراف نفسها التي تمارس الحصار والعقوبات.
إقرأ أيضاً: ما الجديد في العقوبات الاقتصادية على إيران!؟
ويرى مراقبون غربيون؛ بأن العكس من ذلك قد حصل،، فقد ثبت بأن سياسة الإحتواء الإيراني-العراقي المزدوج، وإفتعال الحرب بين البلدين، لم تضعف إيران، كما أن غزو العراق وإسقاط النظام المركزي في بغداد، قد سمح بتمدد النفوذ الإيراني في بغداد، وتغلغله في غرب أفغانستان، وفي جنوب الجزيرة العربية وشرقها. وتضاعف دعمها لحركات المقاومة في المنطقة على إتساعها.
التجربة الطويلة للعقوبات أدت إلى جذب القوى الفارضة لها نحو المجابهة. وغالبا ما أدت ذرائع إطفاء جذوة الحرب، إلى إشعالها. وهكذا رأينا بأن الحصار والعقوبات وسياسة الإغتيالات الداخلية للنخب والعلماء، لم تطح في أكثر من مكان في العالم بأنظمة الحكم>
وفي إيران بالذات؛ صلبت من مركزية الدولة وإنعشت دورة الدماء الشابة في عروق الحرس الثوري (أمام التهديدات الخارجية)، وإن كانت قد أدت إلى الإضرار بالفقراء، وإفقار التجار والطبقات الحرفية، والطبقة الوسطى، وعجلت من وتيرة هجرة هذه الطبقة، كما خفضت من حجم ومدى التعددية، وقللت من تأثير المعارضة السياسية خاصة تلك التي في الخارج، وأسقطت مقولة بأن “فرض عقوبات أشد يعجل من الانهيار الاقتصادي، ويعمق من الشقوق في داخل النظام ، على أمل أن الأصوات الأكثر عقلانية ستعتبر أن ثمن تحدي الغرب، وحيازة أسلحة رادعة، أصبح مكلفاً جداً”.
وثبت بأن الدول المركزية العقائدية، ذات نظام الحكم الواحد، محصنة ضد الضغوطات الإقتصادية، ولا تؤدي العقوبات إلا إلى بناء الأسوار والمتاريس، وتحفيز الروح الوطنية، والتوجه لمضاعفة التسليح الدفاعي. كما أثبتت سياسات العدوان والغطرسة الأمريكية على الدول المُعاقبة، بأن مقاوماتها، أقل تكلفة من الإنصياع لشروطها.
يقال حاليا بإن أسلوب العقوبات الاقتصادية هي دبلوماسية الجبناء. وأنها لا تعدو كونها طريقة منخفضة المخاطر لمتنمري العالم. ولكنها قد تفضي إلى تشجع لوبيات المتشددين لتصعيد الخطوات والإجراءات، والتي لا تفضي في العادة إلا إلى نشوب الصراع المفتوح والمباشر.
ولكن أمام سؤال “ما الذي ينبغي عمله” حيال الأنظمة الأجنبية التي لا نرضى عن سياساتها ولا نقر بها؟
الجواب بكل بساطة.. لا شيء.
لقد أثبتت سياسات الغطرسة وإستعمال القوة العسكرية الغاشمة، إلى التسبب بكلف بشرية ومادية باهظة، لكن بتأثير ضئيل وحسب. وكان من الأفضل كثيراً، الحفاظ على علاقات جيدة مع مثل هذه الدول على أمل المساعدة على حل قضايا ندعي بأننا نهتم بها. أما بالنسبة لتوجيه ضربة عنيفة كلما دعت واشنطن إلى ذلك، فتلك هي الحماقة الأكثر إذلالاً.