الولايات المتحدة.. إستراتيجياتها في الأزمة السورية وسياستها المقبلة بعد الانتخابات
في آذار/2011، بدأ واقعاً غير الواقع الذي كان سابقاً، واقعاً مختلفاً أحدثته الأزمة السورية، إقليمياً ودولياً، تطورات أخذت بانفجار الأوضاع في الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن في حسبان أمريكا..
أمريكا التي بنت استراتيجيات كثيرة لتقسيم المنطقة لم يغب عن بالها أن المنطقة تقع تحت تأثير الانقسامات والتحالفات، فراحت تعيد تكرار سيناريو العراق وليبيا في سورية، ولكن الذي لم يدر لها في بال، هو دخول الدب الروسي على خط الأزمة، ما شكّل صدعاً في مسار الحرب الدائرة على الأرض السورية، وإسقاط هذا السيناريو، ولاحقاً دخول الصين على الأزمة السورية ما سيعمق الصدع.
أمريكا واستراتيجياتها في الأزمة السورية ونتائجها، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، أي سياسة ستتبع الإدارة الجديدة؟
إستراتيجيات أمريكا في الأزمة السورية.. والنتائج
يرى الباحث العسكري اللبناني العميد المتقاعد أمين حطيط في حديث لـ نداء الوطن، أن أمريكا وفي التطبيق الميداني، اعتمدت أمريكا خمسة استراتيجيات بدأتها بأول إستراتيجية وهي إستراتيجية الأقواس الثلاثة؛ والتي تعني قوس الإخوان المسلمين، وقوس الوهابية، والقوس الذي تفترض أمريكا تشكله من إيران وسورية وحزب الله، ولتطلق عليه إسم القوس الشيعي. هذه الخطة أوكل تنفيذها بشكل مباشر إلى إدارة ميدانية وهي القيادة التركية بقيادة أردوغان وقد حُدد لإنجازها مدة ثلاثة إلى أربعة أشهر تنتهي في آب 2011، لكن الأشهر مضت، وعجزت هذه الخطة عن إسقاط سورية، فتراجع الدور التركي قليلاً إلى الوراء، ليتقدم الدور السعودي، وليُعتمد إستراتيجية ثانية أوكل تنفيذها إلى بندر بن سلطان، وأسميت الخطة السعودية الوهابية، والتي اعتمدت على العمل العسكري في سياق ما أعلن يومها بركان دمشق.. زلزال سورية، ولكن دخول حزب الله على مسار الأزمة أفشل هذه الخطة وخلق حالة عدم توازن، فرأت أمريكا وجوب البحث عن خطة ثالثة تجمع الميدانين السوري والعراقي ليستفاد من أحدهما في دعم وإسناد الآخر، فابتدعت خطة داعش التي وضعتها موضع التنفيذ في حزيران من العام 2014.
إلا أن هذه الخطة لم تفلح، حيث تبين للأمريكان أن مشروع داعش لن يحقق لها المطلوب، فقادت حرب استنزاف وكانت هذه الإستراتيجية الرابعة التي تعتمدها أمريكا، والتي بدأت مع شتاء العام 2015، وكانت تتوخى من حرب الاستنزاف دفع القوى المدافعة عن سورية والعراق إلى حالة تآكل واستنزاف الطاقات، لتتمكن بعد ذلك من السيطرة بسهولة. لكن فوجئت بعد ذلك، وفي آخر صيف 2015، بأعمال عسكرية سورية بمشاركة محور المقاومة أدت إلى تحقيق إنجازات عسكرية كبرى خاصة على الجبهة الجنوبية والتي أفرغت عاصفة الجنوب من محتواها.
وهنا دفعت أمريكا إلى إستراتيجية خامسة وهي التي يعمل بها الآن، هي إستراتيجية التقسيم، والتي تقوم على إنشاء قوى عسكرية تأتمر بإمرة أمريكا، وهي ثلاثة بشكل مباشر، هي قوات سورية الجديدة أو جيش سورية الجديد، وقوات سورية الديمقراطية، وجبهة النصرة عبر الطريق التركي.
الدكتور عصام الخواجا نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية، يشارك حطيط في رؤيته للإستراتيجية الإدارة الأمريكية في سعيها لتفكيك دول المنطقة وإعادة تركيبها وفق “سايكس بيكو جديد”، حيث كانت ترى في داعش ضالتها وأداتها الرئيسية لإعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفي وعرقي، وغارات “التحالف ضد داعش” لم تنتج إلا تعزيزاً لنفوذ التنظيم.
لكن وبعد التدخل الروسي بطلب من الدولة السورية والتنسيق بين قيادة جيشي روسيا وسوريا، أصبحنا أمام واقع جديد عنوانه دور روسي فعال إلى جانب الجيش السوري وحلفاؤه، في التصدي لداعش واجباره على التراجع والانكفاء هو وغيره من المجموعات المسلحة الإرهابية والتكفيرية، وهو ما أقلق واشنطن وأدخل خططها الساعية لتقسيم الدولة السورية والمنطقة في مأزق استراتيجي، ما فرض على الإدارة الأمريكية إعادة ترتيب أوراقها للخروج من هذا المأزق. وضمن إعادة ترتيب أولويات واشنطن جاء حرصها على تعزيز صلاتها مع الأكراد في سوريا سعياً لتحويلهم إلى الحليف الجديد، بُغية تكريس حالة التفتيت على أساس عرقي للوطن السوري (بين عربي وكردي)، والسعي لإنشاء القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة يأتي في سياق إعادة تأهيل استراتيجيتها لتفتيت المنطقة ، وهنا وجدت الولايات المتحدة في قوات سوريا الديمقراطية ضالتها البديلة تعتمد عليها في الميدان لإعادة رسم حدود “سوريا الجديدة”.
موطئ القدم الأمريكية في سوريا والعراق
يرى الدكتور الخواجا يقيناً أن هذه التطورات والمواقف المتسارعة لاستكمال وصل ما يطلق عليه “الحزام الكردي” جغرافياً، من القامشلي حتى عفرين، ليست ببعيدة عن تنسيق ومحادثات عقدها صالح مسلم مع مسعود برزاني، والإدارة الأمريكية ممثلة بقائد “التحالف” الجنرال الأمريكي شون ماكفرلان. كل المعطيات تصب في خانة جدية الإدارة الأمركية في انشاء قواعد عسكرية في الشمال السوري والموصل، فبعد ترتيب وإنضاج البيئة الحليفة (جغرافياً وديمغرافياً) وعمادها المكون الكردي في شمال العراق وشمال سوريا، سيسهل على واشنطن تطوير القواعد المؤقتة الصغيرة الثلاث إلى قواعد عسكرية دائمة .
بعد تهيئة واشنطن للسبل والشروط التي تضمن لها إقامة قواعد دائمة في شمال العراق وسوريا، تتحول فكرة إنشاء هذه القواعد إلى مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، في ظل التقدم في صيغة التحالف الثلاثي الروسي الإيراني السوري، ودخول الصين على خط التعاون العسكري المعلن مع سوريا وجيشها العربي، والاستدارة التركية نحو موسكو بعد محاولة الإنقلاب الأخيرة، والتقاء المصالح التركية – الإيرانية – السورية برفض فكرة الانفصال الكردي في أي من الدول الثلاث، واستدارة الخطاب التركي الذي بدأ يطرح “وحدة وسلامة الأرض السورية”، وهو ما يشكل عنصر خلاف بين المصالح الأمريكية التي ترى في الكيان الكردي أداة من أدوات التقسيم وأولويات الأمن القومي التركي في رفض تقسيم سوريا على أساس عرقي كخط الدفاع الرئيسي لمنع قيام كيان كردي على حدودها. ويضيف الخواجا إلى ما سبق، القلق التركي من موقف واشنطن، وربما تورطها في بعض خيوط محاولة الإنقلاب وتبعاته داخلياً وخارجياً، ما يصب في خانة إعاقة القدرة الأمريكية على بناء هذه القواعد ضمن مناطق السيطرة الكردية شمال سورية (المرفوضة سورياً وتركياً).
هنا نُرجح كفة استراتيجيا الحلف الجديد (الروسي، الإيراني، السوري، العراقي، الصيني) المتقاطع مع تركيا في رفض تقسيم سوريا، ما يقطع الطريق أمام كيان كردي مستقل عن الدولة السورية، سواء بصيغة الفيدرالية أو غيرها. هذا التحول الجيوسياسي سيقوي من حضور المكون الكردي السوري الرافض للإنفصال عن الدولة السورية.
الانتخابات الأمريكية ومعالم السياسة القادمة
أمام هذه التحولات في المواقف وأمام اللقاءات والمباحثات الأمريكية الروسية التي لم تفض إلى حلول سياسية نتيجة تحكم الميدان بالموقف السياسي والذي هو ليس لصالحها، تلعب أمريكا لعبة الوقت المحروق باستنزاف كافة محاور الصراع بهدف إطالة أمد الأزمة السورية لما بعد الانتخابات الرئاسية وترسيم السياسة الجديدة في إدارة الأزمة.
يشير د. عصام الخواجا أن الترجيحات التي تعطي “كلينتون” الفرصة الأفضل في النجاح في سباق الوصول إلى البيت الأبيض أمام “ترامب” الجمهوري، أنها لن تخرج في استراتيجيتها بخصوص الملف السوري ومحاربة داعش عن سيناريو إدارة أوباما، مع نزوعٍ في عدوانية أوضح واستعداد أكبر للتجاوب مع الضغوطات الإسرائيلية، ولا ننسى متانة علاقاتها مع اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وما لا يجب إغفاله أن الإدارة الأمريكية القادمة لن ترفع راية الاستسلام والفشل في ادارة الملف السوري من على قاعدة “المصالح تحدد السياسات”، وستستمر في سعيها لدعم المجموعات المسلحة كأداة لتقويض نظام الحكم في سوريا.
وفي حين يرى حطيط أننا بتنا أمام مشهد واضح للسياسة الأمريكية القادمة مقدماته بأن خطة التقسيم سقطت، وأمريكا لا تستطيع أن تطلق عملاً عسكرياً جديداً الآن، حيث سورية ومحورها مصرون على تطهير حلب، المعركة السورية تختصر الآن في حلب.
وأن أمريكا الآن جُلّ ما تريده هو منع معركة حلب وعلى هذا الأساس، المراقب ينظر ليعرف أين تتجه الأمور، إلى ميدان حلب، ففي ميدان حلب تتحدد اتجاه السياسات كلها.
في ظل رفض أمريكا الإقرار بالهزيمة وفي مقابل إصرار محور المقاومة على الانتصار، لا شك أن الجغرافيا العسكرية والواقع الميداني، هي التي ستفرض النتائج السياسية والتي لن تكون لصالح أمريكا وحلفائها.