أيمن صفيّة، رقص رقصته الأخيرة في بحر حيفا | مالك أبو الهيجا
أيمن شاب فلسطيني من قرية كفر ياسيف في الجليل الغربي، منذ صغره كان مولعاً بالرقص، يمارسه في غرف البيت وبين أزقة بلدته وتحت أفياء شجرها، ورغم التحفظات الإجتماعيّة لمجتمعٍ شرقيّ يرفض أن يعتبر الرقص فناً، بل سفوراً للمرأة، فكيف الحال هو مع الرجل، لكنه كَبُرَ و كَبُرَ معه حلمه، ولحسن حظه استطاع أن ينتسب لمدرسة رامبرت للرقص المعاصر في بريطانيا ، وتخرج منها راقصاً محترفاً، وعلى مدى السنوات الماضية شارك أيمن بمجموعة من الأعمال الراقصة عالمياً ومحليّاً، مما جعله شخصاً معروفاً تحديداً لأبناء فلسطين والداخل المحتل، فهو الذي لم يترك موطنه، بل عاد وتصدر تعليم أجيال فلسطينية فن الرقص واحترافه، وخاض النضال الوطني من خلال مشاركته بعروض فنيّة مهمة مع فرقة الرقص الفرنسي (le Ballets C de la B) والتي تعتبر من أشهر فرق الرقص الداعمة لحركة المقاطعة الثقافية للإحتلال.
أيمن ذو الـ٢٩ عاماً، كان البحر ملاذه الآمن، و فسحته الوحيدة من الواقع الذي يعيشه و مصاعب الحياة و تحدياتها الجسام، تحديداً واقع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، و حرب الإقتلاع و التهجير التي تمارس عليهم منذ وجود الإحتلال. يؤكد أيمن دائماً أن الرقص بمختلف مدارسه من الصوفي إلى المعاصر و الباليه، هو تعبير حركي يكثف رسائل عديدة، من ضمنها رسائل سياسية نضالية تحكي واقع الصمود.
غادر أيمن و مجموعة من أصدقائه يوم الأحد ٢٤/٥/٢٠٢٠ إلى شواطئ مدينة حيفا، في بلدة عيتيت تحديداً، و بعد نزوله للبحر بساعات قليلة، بينما الرياح تفعل فعلها و تؤجج الماء و تحرضه، بدأ الموج يتلقفه برفقٍ و يأخذه إلى مكانٍ و عوالم لم يخبرها يوماً، سِمَتُها العامة الهدوء الصاخب، و فلسفتها الكون السحيق الممتد.
منذ غياب أيمن و حتى ظهر الأربعاء ٢٧/٥/٢٠٢٠ حيث وجدت جثته على شواطئ بلدة الطنطورة، و مناشدات أهله و أصدقائه تتصاعد، من أجل أن تتحمل “الدولة” مسؤولياتها تجاه “مواطنها”، و لكن يبدو أن إنساناً عربيّاً فلسطينياً لا يعني شيئاً لـ (دولة المساواة و الديمقراطية)، و أيمن الذي وجد راحته الأبديّة و استمر في الإبحار بحثاً عن حقيقةً ما، لم يسعفه أحدٌ، سوى شعبه، فهب الشباب الفلسطيني من مختلف البلدات و المدن المجاورة للمساهمة في عملية البحث عن فنانهم الشاب، و لم ينتظر صيّادوا عكّا نداءً، و دخلوا البحر بزوارقهم و جوارحهم بحثاً عن أملٍ يدعى الحياة.
الاحتلال هو الإحتلال، وظيفته سفك الدماء، و إن لم يستطع؛ يتواطأ مع الشيطان من أجل ذلك، و دولة التقدم التكنولوجي و العلمي كما يصفها و يتغنى بها الكثير من العرب، خارت قواها و ترسانتها الحربية أمام رياح عصفت بالبحر، و وجدتها مبرراً لترك أيمن يصارع موته وحيداً، رغم أن رياحاً أشد عصفاً، لم تمنعها من قتل آلاف الأطفال و النساء في غزة، و لم تمنعها أيضاً من انتشال جثة “الفنان الصهيوني” أمير غوتمان، الذي ابتلعه البحر قبل ٤ سنوات في ذات الظروف، بعد ساعات من غرقه.
لم يتجاوز الدور الإعلامي الإنساني الصهيوني المراوغ عن تواجد الشرطة على الشاطئ، لِذر الرماد في العيون، بينما توقف الغواصون عن البحث بعد ساعات قليلة، بذريعة الأجواء العاصفة.
لم تكتفِ “إسرائيل” بترك الشاب العشريني يصارع موته وحده، بل منعت المتطوعين للبحث عنه من القيام بمهمتهم، و قامت بمخالفة الصيادين المشاركين بمبالغ مالية وصلت لحدود الـ ٥٠٠ شيكل، تحت ذرائع عدم امتلاكهم لتصريح بالنزول للبحر و وقوف مركباتهم في أماكن ممنوعة!
إن التوصيف السياسي لما حصل مع أيمن و قبله الكثيرين من الشباب الفلسطيني، لا يمكن أن يندرج تحت سياسات “الإهمال” للعرب و الفلسطينيين، و بالمقابل لا يمكن أن نتهم الطبيعة بجريمة قتل أيمن، فالتوصيف الأدق أن دولة الإحتلال قتلت أيمن صفيّة، و بسبق الإصرار و الترصد، و بخلفيّة عنصرية دمويّة قاتلة.
إن قتل أيمن صفيّة بهذه الطريقة الوحشية، يفتح نقاشاً واسعاً لواقع العرب الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، و يجدد سؤال المهام و التحديات على عاتق الحركة الوطنية العربية الفلسطينية في الداخل، و توصيف طبيعة النضال و مساحاته في المرحلة القادمة، فمع التأكيد على أن دولة الإحتلال هي الجهة التي تتحمل المسؤولية الأخلاقية لما حدث مع أيمن، إلا أن الدور الملتبس للعرب تحت قبة الكنيست الصهيوني، يجعلنا نطرح سؤال مدى نجاعة هذه المشاركة.
إن حادثاً كالحادث الذي حصل مع أيمن، لو حدث في دولة أخرى، لكان رئيس بلدية يستطيع أن ينقذ الموقف، فكيف الحال مع الفلسطينيين الذين أعطوا أصواتهم للقائمة المشتركة و حصدوا ١٩ مقعداً في الكنيست؟ قفزاً عن الموقف الوطني من المشاركة بمؤسسات الإحتلال، ما الفائدة على الصعيد الخدماتي التي يجدها الفلسطينيون من وجود ممثلين لهم في الكنيست؟ لم يستطع ١٩ عضو كنيست عربي من “الضغط” على الدولة لإنقاذ أيمن، أو حتى انتشال جثته!
إن لم يكن دم أيمن المسفوح على شواطئ الطنطورة دافعاً لكثيرين حول ضرورة المراجعة و تصويب بوصلة النضال و تحديد أدواته و سياقاته الموضوعية، فإن هذا الدم لن يكون شاهداً أخيراً على مأساة شعبنا الصامد المناضل.