أخبار دولية

“عهد ترامب” والتحول من الليبرالية إلى القومية الشعبوية

تحولات عميقة يشهدها العالم بدأت ملامحها بالظهور مع تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. فترامب صاحب الشخصية المثيرة للجدل، والذي كان محط سخرية الجميع واستخفافهم عند ترشحه، أضحى الرئيس غير المتوقع للقوة العظمى في العالم. هذا العالم بات كله مصدوماً ليس فقط من فوز ترامب في الانتخابات، بل من تصريحاته التي قلبت الموازين لدى حكومات دول العالم الصديق قبل العدو.

ففي حين، تغمز عين ترامب اليمنى لاستمالة روسيا نحو أمريكا، بعد أن كانت العدو الأول لها، تشتد عينه الثانية احمراراً تجاه الصين، بما يوحي بخلق أزمة جديدة في بحر الصين الجنوبي.

ترامب لم يأتِ بالصدفة، فدلالات خطابه _ الذي لم تألفه العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة_؛ نحو الانكفاءة الداخلية لإعادة إحياء العظمة لأمريكا مجدداً، وتحويل الخطر من روسيا إلى الصين، والإدارة الترامبية العنصرية المتشددة، أكبر دلالة على أن هناك متغيرات جديدة خصوصاً على النظام الليبرالي، والتي ستلقي بظلالها الثقيلة على أبعاد الصراع الدولي وإستراتيجيات الأقطاب في عالم بدأ يبتعد عن القطبية الأحادية.

الاستثنائية والقوة الأمريكية العالميةومستقبل النظام الليبرالي في العهد الترامبي

هاجم ترامب كلاً من الصين والاتحاد الأوروبي، في حين كان متماهياً في خطابه مع روسيا، هذه الازدواجية في التصريحات تدلل _ حسب محللين_ عن تخلي الولايات المتحدة عن سياسة الاستثنائية الأمريكية مع الإبقاء على سياسة القوة الأمريكية العالمية، بما سيؤثر ذلك على مستقبل النظام الليبرالي.

الدكتور منذر سليمان الباحث الباحث والأكاديمي المتخصص في شؤون الأمن القومي ومدير لمركز الدراسات الأمريكية والعربية في واشنطن ومدير مكتب الميادين في واشنطن يشير إلى أن هذه الازدواجية في تصريحات ترامب، ليست تخلياً عن فكرة الاستثنائية الأمريكية، لأنها تشمل على امتلاك القوة العالمية، ففكرة الاستثنائية حسب د. سليمان، هي ضمناً تحوي على فكرة قوة أمريكية وليس تخلياً. ويشير بأنه قد يكون هناك سعي تكتيكي لاحتواء روسيا أو تحييدها مرحلياً في إطار تركيبة النظام الدولي، على اعتبار أن الصين هي المنافس الافتراضي الفعلي والأخطر على الهيمنة أو التفرد الأمريكي إستراتيجياً وفي المدى البعيد.

ويضيف سليمان في حديثه لـ نداء الوطن، أن سياسة ترامب الحمائية على أمريكا أولاً هي جاذبة داخلياً للقواعد الانتخابية التي أيّدته في الانتخابات، ومن ضمن هذه القاعدة، هناك فئات كبيرة فقدت فرص العمل في أمريكا خاصة في الولايات التي تصنّف بأنها “الحزام الصدئ” وهي التي تحوي صناعات الصلب والحديد ومشتقاتها، ولكن هذه السياسة الحمائية لن تنقذ الاقتصاد الأمريكي الذي تحول إلى اقتصاد الخدمات والصناعات العسكرية والتقنيات والاعتماد على الأسواق المالية والبورصة، وأن الدخول بحرب تجارية متمثلة في زيادة الرسوم، هذا العقاب الذي يلوح به ترامب بزيادة الرسوم على الدول المنافسة، سيكون له ارتدادات داخلية أيضاً، لأنه سيؤدي إلى رفع أسعار السلع على المستهلك الأمريكي الذي اعتاد على السلع الرخيصة من الخارج وخاصة من الصين، وبنفس الوقت السلع التي تصدّر للخارج ستشهد أسعاراً مرتفعة، عدا عن كون أن هذه السياسة ليست مرهونة بالاقتصاد الأمريكي وحده، ثانياً.

ويلفت د. منذر سليمان إلى أن الكثير من المحللين يتحدثون عن التحول من النيوليبرالية إلى القومية الجديدة، وهذه النزعة الشعبوية والوطنية وجدناها ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما أيضاً في أوروبا، حيث تجلّت في انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والخوف من الهجرة من الخارج واعتبارها خطراً، ولكن النزعة الشعبوية القومية أيضاً لها دلالة على مسار تراجعي عن الاتفاقات التجارية الجماعية لصالح إقامة اتفاقات ثنائية، حيث نلاحظ أن ترامب يسعى إلى إلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ “تي تي بي”، وكذلك إعادة النظر والتفاوض مجدداً على اتفاقية “نافتا” مع كندا والمكسيك التي أبرمها كلينتون. وربما تكون أوروبا هي المتأثر الأبرز بتداعيات سياسات ترامب في هذا الوضع الانتقالي من تراجع الليبرالية المعولمة. وبحسب أحد المحللين والمتابعين للشؤون الخارجية في المجلس الأوروبي يقول: “إن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، قد تصبح أهم مصدر لعدم الاستقرار” وذلك لعدة أسباب منها؛ أن أمريكا لم تعد تعهداتها محل ثقة، وأيضاً المؤسسات الدولية تتعرض للضغط لأن ترامب ينظر لها بأنها قيد على أمريكا وليست وسيلة فعّالة لحماية مصالح أمريكا. لذلك نجد هناك نوع من الخشية الأوروبية في محاولة تقرب ترامب من بوتين، لأنها تخشى من دور ونفوذ وثقل روسي في داخل أوروبا، وتشعر بأن ترامب كأنه يتخلى عن أوروبا ويتركها لطموحات وإمكانية انعكاس القوة الروسية عليها.

في حين يرى الدكتور عصام الخواجا عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية في حديث لـ نداء الوطن، أن رفع حدة التوتر من طرف الولايات المتحدة تجاه الصين، لم يكن وليد برنامج ترامب الانتخابي ونجاحه في سباق رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بل هو نتاج لمتغيرات جيوسياسية كبرى تدحرجت في منطقتنا خلال العقد الأخير، وجذرها الأساس يكمن في فشل استراتيجية التدخلات العسكرية المباشرة والواسعة للولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق. فتصريحات ترامب تجاه مختلف الملفات والقضايا ليست مزدوجة، بقدر ما تمثل قراءة مختلفة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية من قبل مجموعة جديدة من النخب بعضها من داخل الحزب الجمهوري والبعض الآخر من خارجه، وترى بإدارة السياسة الأمريكية بطريقة مختلفة، تتغير بموجبها التحالفات والتفاهمات والأولويات، ما قد يوحي بجمع المتناقضات، في الوقت الذي تعبر عن شكل من إدارة الدولة يتماهى وإدارة الشركة الخاصة، وتعتمد مستوى عميقاً من الممارسة والمواقف الشعبوية والنزعات القومية الفاشية.

ويعتقد الدكتور الخواجا أن ترامب وسياساته يمثل مظهراً من مظاهر انكفاءة الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها، وإعادة رسم أولوياتها والتخلي عن أولويات كانت في السابق خطوط حمراء، ومن ضمنها تراجع الاهتمام بمنطقتنا العربية إلى مرتبة أدنى مما كانت عليه سابقاً، ورسم إطار جديد يخفض مستوى التدخل المباشر في شؤون المنطقة، مُسَلِماً بأن الدور الدولي الأساسي انتقل لروسيا التي يرغب ترامب بتحقيق تفاهمات مشتركة معها حول العديد من الملفات الأخطر باعتقاد ترامب والنخب التي يمثلها.

ويتشارك د. الخواجا الرأي مع د. سليمان حول المفهوم الجديد الذي يناقض كل السياسات الليبرالية الاقتصادية في العودة لاستخدام الأدوات الحمائية والإغلاقية كأحد وسائل حماية الاقتصاد القومي الأمريكي في مواجهة المنافسة الصينية والمنتجات غير الأمريكية، ودعوته للشركات الأمريكية الكبرى التي استقر جلّ إنتاجها خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل رئيسي في الصين ودول جنوب شرق آسيا الصاعدة، لتعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما سيعني رفع كلف إنتاجها وتقليص قدرتها على المنافسة أمام مثيلاتها الآسيوية. فهل سيستطيع ترامب إجبار هذه الكتل الاقتصادية الضخمة والمتنفذة على ذلك؟ أعتقد بصعوبة تطبيق هذا الإجراء لأنه سيواجه بمقاومة هذه الشركات. وهذا أحد مظاهر التناقضات الجديدة داخل النظام الليبرالي.

النووي الروسي ومستقبل العلاقات الأمريكية الروسية

يشير د. منذر سليمان إلى أن مسألة تطوير العلاقات الأمريكية الروسية ليست مرهونة بتخفيض الأسلحة النووية لدى روسيا، فهناك مؤشرات على أن أولوية مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي، وخاصة في المسرح السوري تحديداً، يشكل قاعدة لإمكانية التفاهم بين بوتين وترامب، وتكرّس ذلك في المكالمة الهاتفية التي جرت مؤخراً بينهما، حيث أفصح الكرملين عن فحوى المكالمة، وأكد بأنه سيكون هناك لجنة مشتركة تدرس كل الملفات الدولية، منوهاً بأنه لم يكن هناك حديث عن رفع العقوبات، حيث لا يزال ترامب ينظر إلى هذا الأمر بأنه ليس أولوية، وروسيا أيضاً لا تشترط بأن يكون رفع العقوبات شرطاً لاستئناف العلاقات الثنائية. لذلك قد يكون هناك رغبة في تطوير العلاقات خاصة فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، وتعزيز المصالح الاقتصادية والتجارية. وتلقى هذه المقاربة معارضة شديدة من داخل أمريكا من الحزب الديمقراطي أو المتشددين من داخل الحزب الجمهوري، لذلك سيسير ترامب ببطء في هذا المسار، بحسب د. سليمان.

وبالعودة إلى الرؤية الإستراتيجية للتقارب مع روسيا، يشير د. منذر سليمان، أن روسيا قد لا تشكّل المنافس الأخطر على أمريكا في مقابل وجود الصين، وقد تكون إحدى المحاولات الأمريكية لإحداث افتراق بين روسيا والصين، ولكن ليس بالضرورة أن تنجح هذه المحاولة، لأننا لا نستطيع القول بأن روسيا ستتخلى عن الصين، ولكن المحاولة الأمريكية تهدف إلى نوع من الاختراق؛ تلويح لروسيا بالعلاقة الثنائية مع أمريكا وبإلغاء العقوبات، مقابل أن تصبح روسيا أقرب إلى أمريكا دون أن تتخلى بالضرورة عن تفاهماتها مع الصين، وهذا واضح من تصريحات ترامب خلال حملته وبعدها، وخصوصاً بأنه يقود حملة تحريضية ضد الصين.

ويتشارك المتحدثان الرأي، حيث يشير د. الخواجا إلى أن ترامب يعتبر أن الخطر الأكبر والأول على مكانة وقوة أمريكا اقتصادياً تمثله الصين، وينطلق من اعتبار أن عدم القدرة على كبح جماحها واستمرار صعود خط نموها البياني سيكون المتضرر الأول منه هو الولايات المتحدة. فالصين لم تعد تنافس فقط بكم ما تنتجه، بل بنوعية ما تنتج، وقد وصلت إلى مستويات متقدمة من امتلاك الـ “”Know how في أدق وأعقد الصناعات بعقول وإمكانات وطنية، بكلف منافسة، وأسواق تتمدد في القارات الخمس، لذلك فهو سيسعى لتقليص الأسواق أمامها، ورفع كلف المواد الخام.

ويضيف، إن ترامب يدرك أن مفاتيح عُقَدْ المنطقة الشرق أوسطية بدأت تتجمع في يد روسيا، وقناعة ترامب وفريقه أن أي تسوية سياسية للأزمة السورية والقضاء على الإرهاب لن يكون ممكناً دون البوابة الروسية، ودون التعاون والتنسيق مع الدولة السورية .

وشريطة تخفيف الترسانة النووية الروسية مقابل إلغاء العقوبات الأمريكية، ليس بالضرورة أن يتمسك بها ترامب حتى النهاية، وهي لا تعدو أحد خطوط البدء بالمفاوضات حولها، ويمكن أن تنتهي بتفاهمات تقلّص المحتوى الابتزازي لشرط إلغاء العقوبات، لسبب بسيط؛ أن الطرف الروسي في هذه المعادلة يملك خيارات وبدائل اقتصادية في العمق الآسيوي – الأوراسي الرحب، يمنحه هامش واسع من الوقت والمناورة والانتظار، فروسيا في هذا الموضوع ليست على عجل.

وفي شخصية ترامب المثيرة للجدل، يختم د. منذر سليمان القول، أن المشكلة التي قد يواجهها العالم، هي الطبيعة الشخصية لترامب، فترامب لا يتقبل الانتقاد ولا يتحمل التعامل مع ما يبدو فشلاً، ويتصرف بردات الفعل، ويحرص على إظهار القوة وغرور القوة، فمنطق استعادة عظمة أمريكا يندرج في نطاق تمجيد غرور القوة، لذلك، هو ليس بعيداً عن المغامرات، وهنا قد يلتقي مع بوش الابن، وهنا المشكلة، أننا نتعامل مع ترامب الذي قد يتصرف بطريقة مفاجئة لأسباب ليست منطقية، ومثال ذلك قرار حظر السفر _هذا العقاب الجماعي_. إدارة تتصرف بطريقة أيديولوجية ومزاجية، الرئيس لأمريكا رغم الضوابط عليه من الكونجرس، إلا أنه يملك صلاحيات واسعة، وبرغم وجود قضاء وكونجرس يراقب ويفرمل القرارات الرئاسية؛ إلا أن الكونجرس الآن في إجازة، وليست هناك رقابة بسبب سيطرة الحزب الجمهوري على الأغلبية في المجلسين!!.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى