حديث في التحزب والأحزاب
في إي جلسة من جلسات النقاش الهادئة, غالبا ما يحتدم النقاش إذا طرحت عبارات من نوع حزب وحزبية… أحزاب وتحزب… وتنهال الأسئلة ويرتفع صوت النقاش دون ان يكون هناك-غالبا-أمل في أن تصل جلسة النقاش إلى استخلاص يعمق الرؤية بالواقع أو بسبل الخلاص من أزماته.ومثل هذا النقاش قد يؤشر إلى إن هناك أزمة قد نستطيع تسميتها «بأزمة العمل الحزبي», لكن هذه الإشارة ليست كافية للحكم…
فإذا أضفنا إلى هذا المؤشر مؤشرات أخرى من نوع ضعف الالتفاف الجماهيري حول الأحزاب وتخوف قطاعات واسعة من الجماهير من الانخراط في هذه الأحزاب وكذلك الطرح الذي يطرح كثيرا عن الفائدة من هذه الأحزاب… إضافة إلى موقف الدولة من العمل الحزبي بل ومحاربتها وبشكل جدي لكل العمل الحزبي من خلال السطوة الأمنية أو من خلال سن القوانين المختلفة بمواد تعيق وتعرقل وتكبل العمل الحزبي مثل قانون الأحزاب أو قانون الانتخاب او قانون الاجتماعات العامة وقانون الجرائم الالكترونية…الخ. هذا إضافة إلى إرعاب وتخويف كل من يفكر بالانضمام إلى حزب أو حتى يقترب منه ويكون من أنصاره أو يشارك في نشاطاته.
كل من اقترب من العمل الحزبي يدرك هذه الحقائق… ولكنه يدرك حقيقة أخرى اشد مرارة وهي إن هذه الأحزاب -وقد تراوحت في عددها قرابة الخمسين حزبا- أو بتكتلاتها- أو حتى كل حزب بمفرده, لم تستطع أن يخرج أو تخرج من طور الشرنقة التي وضعت بها وكبلت بها, وان يشكل أو تشكل حالة في واقع الحياة الحزبية تؤسس وتمهد الطريق لالتفاف جماهيري واسع وقادر على التغيير الوطني الديمقراطي.
من هنا جاء تشخيصنا بان هناك مجموعة ظواهر للعمل الحزبي تؤكد انه يعيش في أزمة… ولكن إذا ما طرحت هذه الأزمة فلا بد من تشخيص أسبابها ومسبباتها…
ولكن قبل إن نبحث عن الأسباب نتساءل… ان كان للعمل الحزبي من الأهمية بحيث يستحق أن نبحث في أسباب أزمته؟… وهذا سؤال مشروع.. وللإجابة عليه ننطلق مما هو ملموس للجميع…
لا احد في هذا البلد ينكر بأننا نعيش في أزمة اقتصادية خانقة ومديونية عالية وارتهان لصندوق النقد والبنك الدوليين… لا احد ينكر طبيعة الغلاء الفاحش الذي نعيشه والكمية المهولة من الضرائب التي لا تنتهي عند حد إلا وتجاوزته… لا احد ينكر كمية الفساد والإفساد والرشوة والمحسوبية والتهرب الضريبي (ألملياراتي)والتي يتم التغاضي عنه بجرة قلم… لا احد ينكر أن خط الفقر أصبح مظلة يمتد تحتها ويستظل بظلالها الوارفة معظم الأسر الأردنية… لا احد ينكر ان الحكومات المتعاقبة هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من «رغد العيش ورفاهيته»… لقد فقد هذا الشعب كل شيء إلا كرامته.
ورغم كل المعيقات الأمنية كان هذا الشعب يتحرك وينطلق ليعبر عن رأيه ومعاناته ورفضه لعملية الإفقار الممنهج الذي دأبت الحكومات المتعاقبة في السير عليه. كان الشعب الأردني مع كل هبة وكل تحرك يطالب بتغيير النهج الذي تمارسه هذه الحكومات وتغيير الرموز القائمة على هذا النهج.
وإذا دققنا هنا قليلا, ألا نجد أن هذا النهج هو النهج المتوارث نفسه لدى كافة الحكومات المتعاقبة… هو نهج ليس فرديا بل هو يمثل اتجاها فكريا وسياسيا هدفه الإبقاء على ما هو قائم بل والإمعان فيه… فمع كل حكومة يتضاعف الدين العام وترتفع الضرائب وتتوسع وتمتد خطوط الفقر بل والفقر المدقع.
إن ما نواجهه هو نهج يمثل تحالفا طبقيا حاكما له مصالح مشتركة, ومرتهن للمؤسسات المالية والتجارية والسياسية الدولية, وبالتالي فهو يؤدي دورا وظيفيا ينسجم مع تطلعاته ومصالحه الأنانية الضيقة ويستخدم بالتالي كافة الأساليب من اجل الإبقاء على هذا الدور الذي يؤمن له العيش الرغيد والثراء الفاحش, وان أي استثناء لعناصر نظيفة لا يلغي القاعدة العامة في الحكم على هذا التحالف الطبقي.
إن هذا النهج الذي تنتهجه الحكومات المتعاقبة والذي تعبر به عن تمثيلها المطلق للحلف الطبقي الحاكم لا بد وحتى يتغير ان يكون هناك بديل عنه. وهذا البديل لا يمكن أن يضعه أي رمز من رموز الحلف الطبقي الحاكم لأنه وبكل بساطة معيّن من قبله وينطق باسمه ويصنع ما يملونه عليه وما تمليه المؤسسات والقوى الدولية المرتبط بها.
إن من يمكنه ان يصنع البديل هي الجماهير الشعبية التي لها مصلحة حقيقية في هذا التغيير… ولكن لصناعة وصياغة هذا البديل شروط لا بد من توافرها حتى يكون بديلا حقيقيا وليس وهما والتفافا من الحلف الطبقي الحاكم على نضالات الجماهير.
وبشكل نظري مجرد نقول: رغم أهمية الفرد إلا أن من يصنع التاريخ ويسطر البديل هي المؤسسات الحزبية وامتداداتها في المؤسسات النقابية والجماهيرية. حيث أن هذه المؤسسات هي المعبرة الحقيقية عن مصالح الفئات الشعبية الأكثر تضررا من النهج السياسي والاقتصادي القائم. إن فرض البديل الحقيقي للنهج السياسي والاقتصادي القائم لا يمكن أن يكون إلا من خلال هذه الأحزاب ببرامجها وامتداداتها الجماهيرية الملتفة حول هذا البرنامج البديل, وكذلك من خلال قدرة هذه الأحزاب على متابعة الحفاظ على المكتسبات الحقيقية إلي يتم تحقيقها خلال النضال المستمر.
وتقرير هذه الحقيقة لا يعفينا من التدقيق في الواقع الحزبي القائم لدينا… فقرابة الخمسون حزبا تعبر من خلال تعدادها الكبير تشوها يعتري البنية الاقتصادية والاجتماعية القائمة في هذا البلد , هذاالتشوه الذي يرعاه الحلف الطبقي الحاكم بسياساته الداخلية والخارجية وعدم قدرته على تطوير بنية تحتية متطورة إنتاجية وعصرية.
هذا التشرذم الحزبي ينقسم في التعبير والتوجه إلى ثلاثة أقسام كبيرة:
القسم الأول هو مجموعة من الأحزاب أنشأها الحلف الطبقي الحاكم لتدافع عن مواقعه ولتكون ديكورا جميلا «لعصريته». وهذه الأحزاب لن تختلف في نهجها عما يطرحه الحلف الطبقي الحاكم, وبالتالي فإن هذا القسم من الأحزاب غير معني بطرح أي بديل عن النهج القائم.
أما القسم الثاني فهو قسم الأحزاب الوسطية والتي في غالبيتها تنحصر اختلافاتها مع الحلف الطبقي الحاكم حول أمور تفصيلية لا تشكل نهجا متكاملا وبديلا عن النهج القائم.
أما القسم الثالث فهو مجموعة أحزاب المعارضة والتي شكلت ائتلافا فيما بينها هو ائتلاف الأحزاب القومية واليسارية, وهو يطرح بديلا وطنيا ديمقراطيا للتغيير.
ولكن هل يكفي أن تضع برنامجا للتغيير الوطني الديمقراطي دون أن يكون لديك الالتفاف الجماهيري القادر على حماية هذا البرنامج والدفاع عنه؟… إن أحزاب المعارضة القومية واليسارية رغم النضالات المتعددة واليومية التي تخوضها ورغم الظروف والقيود والعراقيل التي تواجهها في نضالها هذا, إلا أنها بحاجة إلى مضاعفة نضالها التوعوي والتثقيفي والحراكي حتى يجد برنامجها الذي يمثل البديل الحقيقي قبولا لدى أوسع القطاعات من الجماهير الشعبية المتضررة من الوضع القائم. مطلوب من هذه الأحزاب إن توسع من إطار تحالفاتها لتضم أوسع ممثلين عن القطاعات الشعبية التي تتفق مع هذا البرنامج سواء أحزاب أو حراكات أو اطر جماهيرية وفعاليات وطنية, وذلك على طريق بناء جبهة وطنية متحدة قادرة على تبني شعار التغيير الوطني الديمقراطي وتحقيقه على الأرض بالملموس. فحركة التاريخ في الأساس هي حركة شعبية واسعة… والحفاظ على أي مكتسبات لا يمكن أن يتم إلا من خلال برنامج واضح للتغيير, وقوى سياسية تقدمية تتمسك به, والتفاف جماهيري حولها ليشكل تأمينا لها وضمانتها الأكيدة.