أخبار فلسطين

بعدسة «نيويورك تايمز»: كأس البيرة التي اختزلت انتفاضتنا الثقافيّة/ بقلم: أسماء عزايزة

الجهل يثير الشفقة. أما تحريف المعرفة، فوقاحة. يصطدم الفلسطينيون، كلّ يوم، بأسئلة سطحيّة وجاهلة من الغرب حول واقعهم. قد يُغفر لبعض تلك الأسئلة كونها ساذجة أو لا تقصد اتخاذ موقف عارف تجاه الواقع. فحين نتحدّث عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة العام 1948، تنتهي محاولات إقناع العالم بأنّنا جزء لا يتجزّأ من الشعب الفلسطينيّ، وأنّنا لسنا ـ على الأقل في معظمنا ـ «عرب إسرائيل الشاطرين». مقابل تلك السذاجة، تخرج أقلام صحافيّة عارفة، لتصوّر ازدهارنا العظيم الجديد في «إسرائيل»، وفي حيفا تحديدًا مع هامش الحريّة الاجتماعيّة والفرديَّة المتاح، وتحوّلنا بكل جدارة، إلى نسخة دقيقة التماهي مع النموذج الإسرائيلي التل أبيبي المتحرّر.


قبل أيام، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريرًا بعنوان «في مدينة حيفا الإسرائيلية، تزهر ثقافة عربيّة ليبراليّة»، أنجزته الصحافية ضياء حديد. لا يبدو العنوان كارثيًّا أمام التنميط الذي اعتاد الغرب وإعلامه أن يمارسه علينا. ولا يبدو مضمون المقالة كذلك، وهو يصوّر ولادة الثقافة الليبرالية العربيّة تلك، بمشاهد لصبايا وشباب فلسطينيين يشربون البيرة في حانات حيفا وتملأ أجسادهم الوشوم والأقراط. لا عجب أن نبدو في عدسة «نيويورك تايمز» في الجانب الآخر من الكوكب ـ نحن من صدّق اليهود القادمين من الغرب أنّ لنا ذيولاً كالقردة ـ حديثين على التحضّر والانفتاح. لا عجب في ذلك حين أتذكّر سائق تاكسي إسرائيليّا في حيفا، يفغر فاه أمام بنطالي، ويقول: «لم أعلم أن العربيّات يرتدين الجينز»! ثم إنّه ليس غريبًا على الإعلام الأميركيّ أن يغيّب حقيقة ما يفعله الفلسطينيون على المستوى السياسيّ والثقافيّ نحو تشكيل هويتهم المستقلّة، ما دام يرى فيهم مواطنين مرفّهين يتمتّعون بحقّ الانتخاب، ويحظون ببعض اللحم الذي ترمي به وزارة الثقافة الإسرائيليّة إلى ثقافتهم الجوعى.

كلّ هذا لم يعد يثير فينا أيّ دهشة. وربما لم يعد يحرص بعضنا على كسر التنميط والمغالطات التي تُمارس بحقّنا. هناك معرفة دنيا عند الغرب المتابع، وإن كانت غير واسعة الانتشار، بكثير من المبادرات والمشاريع الفلسطينيّة التي تنطلق من الأراضي المحتلّة عام 1948. مبادراتٌ عرفت كيف تخترق حدود البلد وتخاطب الخارج بالإنكليزيّة، وتضع مقولتها في وسائل الإعلام الحديثة.
في التقرير المذكور، تحاور الصحافيّة عددًا من الفلسطينيين في حيفا حول المشهد الثقافيّ الاجتماعيّ الذي يعيشونه وحول مبادراتهم ومشاريعهم في الآونة الأخيرة. وفي حذف يكاد يكون مرئياً، لمن يعرف تلك المشاريع والقيّمين عليها، يجتزئ التقرير مواقفهم ورؤاهم السياسيّة والثقافيّة، بحسب ما صرّح به بعضهم على «فايسبوك»، إثر نشره.

يبرز التقرير اقتباساً لأحد مؤسسي بار «كباريت» عايد فضل، فينقل عنه قوله: «نريد لثنائي مثليّ أن يتبادل القبل في ساحة الرقص من دون أن يلتفت إليه أحد. هذا هو المجتمع الجديد الذي نطمح إليه». وإن مثّل ذلك التصريح موقف فضل الفعليّ، إلا أنه أوضح عبر حسابه على «فايسبوك» أنّ الجملة اقتطعت من سياقها، إذ جاءت ضمن حديثه عن أنّ الثقافة التي تُصنع في حيفا هي ثقافة مقاومة مقابلة للثقافة الإسرائيليّة، وأنّ محاولة التقرير أن يقول للغرب: «تفرّجوا، إنهم مثلنا»! هي محاولة بائسة.

يتجاهل التقرير أهداف «كباريت» في احتضان الموسيقى الفلسطينيّة الحديثة والبديلة «والتحت أرضيّة»، ويختزل الخلفية السياسيّة والثقافيّة من المبادرات الشابّة في حيفا، والتي تأخذ شكل انتفاضة ثقافيّة، من خلال إنشاء مساحات فاعلة وحرّة مثل «كباريت» أو مسرح «خشبة» (والأخير تأسس على ركيزة استقلاليّته من المؤسسة الإسرائيليّة، وسعيه نحو إنشاء مسرح فلسطينيّ حقيقيّ، ما لم يرد في تقرير الصحيفة الأميركيّة).

يتفادى التقرير الإشارة إلى أنّ المبادرات المذكورة تصرّ على استقلاليّتها وحريّتها في التعبير والوجود في ظلّ هيمنة المساحات والمؤسسات والمشاريع الإسرائيليّة. يركّز على تطلّعها إلى الحريّة الفرديّة والجسديّة، فقط، ويضعه في خانة الازدهار الليبرالي. في الوقت الذي يحاول فيه الحراك الثقافي الفلسطيني الناشط، والذي تشهده حيفا ويتكثّف منذ سنوات، إلى رمي حجر كبير في مياه الاحتلال الثقافيّ والفكريّ واللغويّ الآسنة، وإلى التحرّر من التيّار المتطرّف في مجتمعه، كونه يقمع الفنّ أيضًا، ولكن ليس بمعزل عن التحرّر من الهيمنة الإسرائيليّة على هويّته.
لا تجهل الصحافيّة معدّة التقرير ما يحصل في الأراضي المحتلّة العام 1948، إذ إنّها لم تزر المكان للاحتفال برأس السنة، بل قضت سنوات لا بأس بها في حيفا ووسط مجتمعها المدنيّ. كما لا يجهل الفلسطينيون في حيفا، ومن بينهم من يشربون البيرة في «إليكا» (بار) ومن يرقصون في «كباريت»، ما يمارس بحق مدينة فلسطينية تاريخيّة من قبل المؤسسة الإسرائيليّة من مخططات تهويد وتحوير وسرقة. هؤلاء، الذين يجاهرون بأجسادهم ووشومها، كثيرًا ما يجاهرون أيضًا بموقفهم السياسيّ الواضح، في مقابلة «نيويورك تايمز» وخارجها، وبردّهم على سياسة الاحتلال بالفعل الحقيقيّ. إذاً، هو ليس الجهل عزيزتي ضياء، هو إعادة تصنيع بائسة للحقيقة. وما يبدو لقارئك الأميركيّ جذّابًا، يبدو لمن أُعجبتِ بازدهارهم، مثيرًا للغثيان.

شاعرة فلسطينية من حيفا

نقلاً عن جريدة السفير 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى