الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: الرفض السياسي والمقاومة العملية
مقدمة:
تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 11 /12/1967 من رحم حركة القوميين العرب، وضمّت منظمة شباب الثأر التي كانت الجناح العسكري الفلسطيني في حركة القوميين العرب قبل عام 1967، وكذلك منظمة أبطال العودة التي فرزت قيادتها حركة القوميين العرب لتكون نواة للعمل الفدائي داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وأخيراً، ضمّت جبهة التحرير الفلسطينية التي لم تستمر في الجبهة الشعبية وانشقت عنها قبل أن تكمل عاماً واحداً في تشرين الثاني 1968 .
“الشعبية” شوكة في حلق الحلول التصفوية
ومنذ البيان الأول لها، دعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى الوحدة بين فصائل العمل الفلسطيني المسلح، وأكدت أن العدو الصهيوني لا يفهم إلا لغة العنف الثوري، وأن الجماهير هي مادة المقاومة وقيادتها، وأن خيارها هو الكفاح المسلح. ومنذ انطلاقتها رفضت باستمرار الحلول السلمية التي تؤدي إلى الاعتراف بدولة “إسرائيل”، وتفرّط بالحقوق والمصالح القومية للأمة العربية في فلسطين، وبحقوق عرب فلسطين في أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية، وأكدت الجبهة أن الطريق الوحيد لحل القضية الفلسطينية هو تحرير فلسطين بكامل ترابها.
ففي 4 كانون أول 1967، أصدرت بياناً رفضت فيه قرار مجلس الأمن رقم (242).
وفي عام 1974، تشكلت جبهة الرفض الفلسطينية تحت اسم: “جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية” من الفصائل التالية: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجبهة التحرير العربية، والجبهة الشعبية – القيادة العامة، وجبهة النضال الشعبي، ومنظمة الصاعقة.
وقد تزعمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جبهة الرفض التي عارضت قرارات دورة المجلس الوطني الفلسطيني الثانية عشر التي أقرت برنامج النقاط العشر، والمتضمن، إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من فلسطين، وقد تم اختيار الرفيق أبو ماهر اليماني أمين سر لجبهة الرفض.
كما لعبت الجبهة الشعبية دوراً هاماً في جبهة الصمود والتصدي، التي ضمّت كل من العراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر، واليمن الديمقراطية الشعبية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تشكلت في تشرين الثاني 1977 بناءً على دعوة معمر القذافي للوقوف ضد المخططات الإسرائيلية عقب إعلان أنور السادات في 9/11/1977 أمام مجلس الشعب المصري، استعداده للتوجه إلى “إسرائيل”.
ونجحت جبهة الصمود والتصدي في اتخاذ قرار بالجامعة العربية ينص على: طرد مصر منها، ورفض اتفاقية كامب ديفيد الاستسلامية التي مهّدت لدول أخرى عملية التطبيع مع العدو الصهيوني.
الشعبية ونهج العنف الثوري
ولأن الجبهة الشعبية جبهة ثورية، طبّقت الممارسة العملية على الفكر النظري، ولم يتوقف نشاطها على العمل السياسي ضد مشاريع الاستسلام، بل استخدمت العنف الثوري المستند إلى أساليب حرب العصابات مستفيدة من تجارب ماوتسي تونغ في الثورة الصينية، وجيفارا في الثورة الكوبية، وتجربة لينين في روسيا، وتجربة هوشي منه والجنرال جياب في فيتنام، وتجارب أخرى، آخذة بعين الاعتبار الواقع الفلسطيني وخصوصيته.
وكانت أول عملية تدريب عسكري لحركة القوميين العرب التي انبثقت عنها الجبهة الشعبية لاحقاً، هي دورة صاعقة في قاعدة أنشاص في مصر على يد ضباط مصريين أيام الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1962 والتي خرجت قيادات عسكرية قادت العمل العسكري وتدريب الرفاق الآخرين وشكلوا الجهاز النضالي لحركة القوميين، وكان أول شهيد لها خالد أبو عيشة في 2/11/1964.
فقد قامت منظمة أبطال العودة –الجناح العسكري لحركة القوميين العرب- التي تأسست في آب عام 1964 بإصدار 8 بلاغات عسكرية لعملياتها قبل عام 1967، منها الوصول إلى مفاعل ديمونا ونسف أنابيب الغاز الذي يصله، ونسف معسكر في واد الجاموس، ومستودع للذخيرة في بيت جبرين، وغيرها من العمليات، وقدّمت ثلاث شهداء في الجليل، وتم أسر الرابع وكان الرفيق سكران سكران أول أسير، فيما استشهد أحد مؤسسيها وهو الحاج فايز جابر في عملية عنتيبي في 1976.
كما تم إصدار البيان العسكري الأول للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتاريخ 21/12/1967، ويتضمن تعداد للعمليات التي نفذت من كمائن لجنود العدو وتدمير آليات له… إلخ.
وانطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعملها المقاوم المسلح، واعتبرت العمل الفدائي في الداخل المحتل هو الأساسي، والعمل في الساحة الخارجية هو الرديف.
وتميزت الجبهة الشعبية بعملياتها الفدائية النوعية سواء في الاشتباكات مع جنود العدو داخل الأرض المحتلة أو في زرع المتفجرات في المدن المحتلة، وأكدت على دور المرأة في المقاومة المسلحة، فكانت أول شهيدة الرفيقة شادية أبو غزالة، وأخذت المرأة مكانتها القيادية مثل الرفيقة ليلى خالد والرفيقة مريم أبو دقة. ونجحت الجبهة منذ البداية في عام 1968 في زرع قنابل في القدس وتل أبيب، وكان أهمها عملية “السوبر سول” و”ليلة القنابل” في القدس، وعملية محطة الباصات المركزية في “تل أبيب” لتستمر المقاومة. وكانت أول فصيل نفذ عملية استشهادية في سينما حن في تل أبيب عام 1974.
وشاركت الجبهة الشعبية في معركة الكرامة جنباً إلى جنب مع الفدائيين والجيش العربي الأردني، دفاعاً عن الأردن في 21 آذار 1968، ولم تترك مواقعها.
الشعبية إلى جانب الفصائل والصمود الأسطوري في بيروت
في لبنان، كان لتنظيم الجبهة العسكري الموجود في تل الزعتر بقيادة عضو اللجنة المركزية للجبهة الشهيد أبو أمل إلى جانب جماهير الشعب الفلسطيني ومقاتلي الثورة الفلسطينية من مختلف فصائل المقاومة أثر في الصمود البطولي للمخيم، كذلك وقف مقاتلوا الجبهة مع غيرهم من مقاتلي الثورة صامدين في لبنان في آذار 1978.
وإبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، تصدت الجبهة لجحافل العدو الصهيونى بكل قوة، إلى جانب القوى الوطنية اللبنانية وفصائل الثورة الفلسطينية، ورفعت أثناء حصار بيروت شعار:
“تحويل بيروت إلى ستالينغراد”. كما رفضت الانسحاب من بيروت في الفترة الأولى من الحصار، مما لعب دوراً في إطالة أمد الصمود، وانسحاب المقاومة الفلسطينية بكرامتها من بيروت. وقبل الانسحاب من بيروت، كان للجبهة الشعبية دور أساسي إلى جانب الحزب الشيوعي اللبناني، في تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية والمشاركة الفاعلة في عملياتها. كما شاركت الجبهة بفعالية إلي جانب قوى الحركة الوطنية اللبنانية في التصدي للاحتلال الصهيوني وأعوانه فى الأعوام 83، 84، 85، ودحره عن مناطق بيروت والجبل وصيدا.
وكانت دائماً مثالاً للصمود في مواقعها، وكان دائماً سلاح الوعي جنباً إلى جنب مع الأسلحة النارية، فكان مبدأ أساسي لها “أن كل سياسي هو مقاتل وكل مقاتل هو سياسي”، فكانت مقاومة الجبهة الشعبية المسلحة، مقاومة مسلحة بالوعي أيضاً.
وراء العدو في كل مكان
ولأن العمل في الساحة الخارجية رديف للعمل في الداخل؛ فقد أطلق الرفيق وديع حداد شعار “وراء العدو في كل مكان”، فكانت عمليات خطف الطائرات التي عرّفت العالم كله على قضيتنا الفلسطينية، وكانت عمليات ضرب السفارات الإسرائيلية والمؤسسات الصهيونية في العالم.
وأثبتت الأيام صحة رؤية الجبهة الشعبية إثر العدوان الصهيوني عام 1982على لبنان، وطرحت أن الخطر الأكبر القادم الذي سيواجه منظمة التحرير الفلسطينية هو “محاولات الأنظمة الرجعية العربية احتواء المقاومة الفلسطينية وتدجينها سياسياً، وجرّها إلى مستنقع التسوية السياسية التصفوية خطوة وراء خطوة، بما يتفق وتحقيق أهداف ومخططات الحلف الإمبريالي الصهيوني الرجعي”.
الشعبية والموقف من اتفاقيات “السلام”
وفي مواجهة زيارة رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات إلى القاهرة وتوقيع اتفاق عمان وانعقاد الدورة 17 للمجلس الوطني، قادت الجبهة الشعبية مع خمس فصائل أخرى “جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني” 1983 – 1987، وجاءت الانتفاضة الأولى سنة 1987 ليتبعها مشاركة المنظمة بمؤتمر مدريد في تشرين ثاني 1991، ويتبعها اتفاقات أوسلو الاستسلامية في أيلول 1993، حيث أعلنت الجبهة الشعبية مقاطعتها لمؤتمر مدريد ورفضها لاتفاقات أوسلو، وأكدت مواصلتها النضال ضد المشاريع الأمريكية الصهيونية الجديدة لتمرير مؤامرة الحكم الذاتي وتصفية القضية الفلسطينية وهذا ما يتم الآن على الأرض.
انتفاضات الداخل: شهداء قرباناً للثورة
شاركت الجبهة الشعبية في الانتفاضة الأولى عام 1987، إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية، حيث كانت طرفاً رئيسياً في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة “قاوم”، وشاركت في صياغة بيانات الانتفاضة الموحدة تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة” وساهمت في كل النشاطات الجماهيرية.
وفي الانتفاضة الثانية التي انطلقت شرارتها عام 2000، قدمت التضحية الكبرى باستشهاد الأمين العام للجبهة الشعبية القائد أبو علي مصطفى، واعتقال الأمين العام القائد أحمد سعدات الذي تم هدم سجن أريحا من أجل اعتقاله على اثر قيام أبطال الجبهة الشعبية باغتيال الوزير الصهيوني رحبعام زئيفي، وكانت دائماً إلى جانب الفصائل الأخرى في النضال من أجل الحرية والاستقلال.
واليوم في “الانتفاضة الثالثة” انتفاضة السكاكين، تقدّم الجبهة الشعبية الشهيد تلو الشهيد، حيث يسجل لرفاقنا في الجبهة الشعبية، أنهم الأكثر تقديماً للشهداء في هذه الانتفاضة. بل إن “الشعبية” حوّلت ذكرى انطلاقتها لهذا العام، إلى مناسبة لتأجيج الانتفاضة، من خلال رفع شعار “انطلاقتنا انتفاضة”، وهو الأمر الذي اعترف به المحللون السياسيون والعسكريون الصهاينة، حيث نعوم أمير في صحيفة معاريف الصهيونية “هذه الليلة ليست ككل الليالي. فاليوم يتم إحياء الذكرى السنوية لإقامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وعلى طاولة قائد اللواء وضع تقويم للوضع يقول: إن الفرع المحلي لمنظمة الجبهة الشعبية في قلقيلية، يُعدّ بضع مفاجآت للواء أفرايم”.
وإذا كان لا بد من كلمة في النهاية، فإن دراسة تجربة جيفارا “محمد الأسود” في غزة، ودراسة تجربة “أبو منصور سعيد السويركي” في جبال الخليل، وتجربة العمل الخارجي بقيادة وديع حداد، يجب أن تدرّس للجماهير الفلسطينية، لأن فيها زخم المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومعنى العنف الثوري في مواجهة ثقافة الاستسلام والخنوع ومفاوضات “سلام” عبثية.