فكر

في حوار مع نداء الوطن، المفكر الماركسي د.هشام غصيب: لا ديمقراطية بدون فعل ثوري

نداء الوطن-خاص

أجرى المقابلة: رامي ياسين وفاخر دعاس

تصوير: محمد زهير

.. في بيته المتواضع الذي بناه والده في جبل عمان في (عام الهزة)، وهو العام الذي تعرضت له عمّان إلى زلزال قوي، استقبلنا الباحث والمفكر الماركسي والأكاديمي الكبير لنتحدث عن الفكر والسياسة والوطن وعن التعليم.

كان هاجسنا ونحن نعد لهذا اللقاء هو كيف لنا أن نكثّف أسئلتنا ونحن أمام هامة فكرية كهذه، فكان خيارنا بالتركيز على قراءته الفكرية والنظرية لما يجري على الصعيد السياسي والوطني، ولم نفلح طبعاً بالتكثيف لذا قمنا بتقسيم المقابلة إلى جزئين.

في هذا العدد ننشر الجزء الأول الذي يضم محورين؛ الأول “صعود اليسار إلى السلطة” والثاني، “ما حدث في الوطن العربي ربيع أم ثورات”.

المحور الأول: وصول اليسار إلى السلطة بأدوات البرجوازية:

نداء الوطن: تتابعون ما حدث في أمريكا اللاتينية واليونان من وصول قوى إشتراكية إلى سدّة الحكم عن طريق “الديمقراطية الغربية”، فهل يمكننا القول أن الحديث عن الثورات من أجل وصول الطبقة العاملة إلى الحكم، والحكم من خلال “دكتاتورية البروليتاريا” أصبح من الماضي؟ وهل ستنجح هذه القوى الاشتراكية بالاستمرار في حكمها وتطبق برامجها في ظل سطوة الرأسمالية والإمبريالية على مفاصل الإعلام والإقتصاد؟ أم أنها كما نجحت بالديمقراطية ستسقط بها وعندئذ سيكون سقوطها مدوياً بشكل أكبر؟

د. هشام غصيب: أُفضل تسميتها بـ “الديمقراطية الليبرالية” وليس الغربية، ما حصل في أمريكا اللاتينية هو أعمق مما حصل في أوروبا. ولكن في كل الأحوال، ما حصل هو أن القوى الإشتراكية استطاعت الوصول إلى سدة الحكم ولكنها لم تستطع تطبيق الإشتراكية.

ففي فنزويلا حيث تجربة البوليفاريين التي لا يمكن نزع صفة الثورية عنها، لم تستطع هذه القوى تطبيق الملكية العامة، بل على العكس، تعرضت هذه التجربة لضغوطات كبيرة فرضت عليها الاكتفاء بـ “إدارة أزمة الرأسمالية” والتخفيف من وحشية وحدة الرأسمالية.

ضمن الديمقراطية الليبرالية لا تستطيع إلا أن تتقشف ولكن يصبح النضال حول شروط التقشف وليس التقشف بحد ذاته كما يحدث حالياً في اليونان.

 حاول تشافيز وحزبه تحقيق مكاسب حقيقية وقام بتعديل الدستور، إلا أنه لم تستطع الطبقة العاملة استلام الحكم وتحقيق الإشتراكية، ولم تجرؤ أي من هذه القوى الإشتراكية تطبيق الإشتراكية، وإنما إدارة الأزمة الرأسمالية –كما ذكرت- وهو شيء إيجابي من ناحية الإجراءات لصالح الجماهير الشعبية والتخفيف من معاناتها، ولكنه يبقى غير كافٍ من ناحية تطبيق الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وبالتالي لم تستطع هذه القوى عبر “الديمقراطية الليبرالية” القضاء على سلطة البرجوازية المتحالفة مع الإمبريالية. بل لا تزال هذه البرجوازية قوية وتتربص وتتحيّن الفرصة للانقضاض على المشروع الإشتراكي وأيضاً من خلال “الديمقراطية”. ما حصل في هذه الدول مهم، ولكنه يصبح أكثر أهمية إذا كان تمهيداً لثورة إشتراكية ، أنا أدرك تماماً حكمة ما قام هوغو شافيز ومن بعده مادورو في ظل الضغوطات والهجمة عليهم، ولكن علينا أن لا نتوهم بأن ما تحقق هو الاشتراكية.

نداء الوطن: هل نفهم من حديثك أن على القوى الاشتراكية أن “تتحايل” وتقبل بالوصول إلى السلطة عبر “الديمقراطية الليبرالية” ولكن عليها لاحقاً أن تقوم بالانقضاض عليها من خلال ثورة إشتراكية؟؟

د. هشام غصيب: لم يكن بإمكان هوغو تشافيز أو غيره الوصول إلى سدة الحكم والبقاء فيها دون وجود قوى ثورية، هذه القوى الثورية التي تطلب تشكيلها عشرات السنين هي من ساهمت وتساهم في منع أي محاولة للانقضاض على حكم القوى الاشتراكية بالأساليب القديمة –انقلاب عسكري أو احتلال إمبريالي مباشر-. فهذه القوى البرجوازية لن تستطيع إسقاط الإشتراكيين بالقوة الدموية كما فعلت مع سيلفادور ألليندي في تشيلي في السبعينيات، وكما حاولت مع تشافيز الذي حال الالتفاف الجماهيري الكبير والقوى الثورية حوله دون نجاح الانقلاب العسكري عليه. 

نداء الوطن: هذا يعني أنه لا يزال مفهوم “الثورة” في الفكر الماركسي قائم ومطلوب؟؟!!

د. هشام غصيب: طبعاً، لا يمكن الخروج من الإطار الرأسمالي وتحقيق الإشتراكية دون تطبيق ديكتاتورية البروليتاريا “الديمقراطية العمالية” أي حكم الطبقة العاملة وهي لا تعني ديكتاتورية الفرد أو الحزب، وإنما ديكتاتورية الطبقة التي تشكل الغالبية. فأنت بحاجة إلى استلام الطبقة العاملة وحلفائها الحكم، وهذا شرط ضروري لتحقيق الإشتراكية ولا يزال الطرح اللينيني أنت تحتاج لتحطيم جهاز الدولة البرجوازي وتبني جهاز البروليتاريا لتحقيق الإشتراكية بدليل أننا لم نخطو خطوات كبيرة نحو الإشتراكية لا في أمريكا ولا في اليونان في ظل الديمقراطية الليبرالية.

هذه التجارب لا تلغي فكرة دكتاتورية البروليتاريا وإنما تعززها.

نداء الوطن: في ظل الظروف التي تعيشها المنطقة العربية والقوى الإشتراكية واليسارية، هل الأفضل هو النضال للوصول إلى السلطة من خلال الديمقراطية الليبرالية؟ أم أنه لا خيار أمام هذه القوى سوى الخيار الثوري؟

د. هشام غصيب: هل هنالك ديمقراطية في المنطقة العربي أصلاً؟؟!! لن تستطيع دول الأطراف أن تحقق أي نوع من الديمقراطية الفعلية وليست الشكليةكما هو سائد في بلداننا- من دون الفعل الثوري. والفعل الثوري ليس فقط فعل الأحزاب، وإنما أيضاً تنظيم الجماهير المتضررة. هذا الفعل الثوري هو الذي يحمل في باطنه الديمقراطية، ولا ديمقراطية خارج الفعل الثوري خصوصاً في ظل ظروف المنطقة العربية والأطراف بشكل عام.

نحن لدينا في الأطراف أجهزة استبدادية مافيوية تابعة وفي ظلها لا يمكن إنشاء أي نوع من الديمقراطية. لذلك علينا أن نسعى لبناء قوة شعبية ثورية، وهنا لا أعني بكلمة ثورية أن تكون عنيفة من أجل مجابهة هذا البناء الاستبدادي- المتناقض تماماً مع مفهوم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية- وفي النهاية تفكيكه وإحلال البديل الإشتراكي.

المحور الثاني: حدث في المنطقة العربية.. ربيع عربي أم ثورات:

نداء الوطن: عاشت المنطقة العربية منذ نهايات عام الــ 2010 وحتى وقت قريب ما يسمى بـ “الربيع العربي”. كيف تقرأ ما يسمى بالربيع العربي؟ هل كنا أمام ثورات قام الغرب باستغلالها بالتحالف مع قوى إسلامية لتسويق الكيان الصهيوني في المنطقة؟ أم أننا أمام ثورات فعلية نجح الإسلام المعتدل باستثمارها والوصول إلى سدة السلطة فيها، ما دفع البيروقراط والعسكر للتحالف والانقلاب عليها؟؟!! أم أنها منذ البداية لم تكن أكثر من مخطط غربي معد مسبقاً شاركت فيه القوى الليبرالية والإسلامية لإسقاط أنظمة انتهت صلاحيتها؟؟!!

د. هشام غصيب: المسألة ليست أبيض وأسود. أنا أرفض إطلاق تسمية “الربيع العربي” على ما حدث، وهذا المصطلح تم تصنيعه في أروقة المخابرات الأمريكية لتشويه ما حدث في المنطقة العربية. ويحضرني ربيع براغ الذي هلّلوا له وهو كان في الحقيقة عملية إصلاحية ومحاولة لزعزعة المعسكر الاشتراكي. لقد سقط الإعلام العربي في هذا المصطلح بامتياز.

نداء الوطن: هل هي ثورة؟؟!! على سبيل المثال، المفكر الماركسي سمير أمين رفض إطلاق مصطلح “ثورة” على ما حدث في مصر.

د. هشام غصيب: عندما تنطلق عشرات الملايين من الجماهير للشوارع لا يمكن إلا أن أسميها ثورة. لا يمكن أن تسمي ثورة ربيعاً، الثورات حراك عنيف جماهير شعبية تحركت بعشرات الملايين، ولا يمكن الحديث عن أن الأمريكان قادرون على تحريك هذه الملايين.

الأمريكان أدركوا أن الأنظمة العربية استُهلكت وأرادوا تغييرها بطريقتهم عن طريق الحرب، كما فعلوا بالعراق، أو ثورات برتقالية محدودة، ولم يكونوا راغبين أو متوقعين أن يتم التغيير عن طريق هذه الثورات.

أنا على قناعة بأن ما حدث في اليمن وتونس ومصر والبحرين عبارة عن ثورات حقيقية.. ثورات شعبية، لكنها لم تسفر عن نتائج ثورية لغياب القيادات والقوى الثورية الفعلية.

 ولكن ما قام في سوريا وليبيا هو غزو بالتعاون مع قوى إسلامية وليبرالية وليس ثورة؛ فأي ثورة تلك التي تهتف: الشيعي في التابوت والمسيحي ع بيروت، أو جمعة التدخل الأجنبي في ليبيا؟ أي ثورة والناتو قام بقتل 150 ألف ليبي وتخريب وتدمير للدولة؟

لقد شّنت حرب عالمية على سورية ولكن الفيتو الروسي والصيني حال دون التدخل المباشر في سورية فتم الاستعاضة عنه بنموذج الكونترا (العصابات المسلحة).

بالتأكيد حصلت ثورات في مصر وتونس، جاءت ردات الفعل عليها بمحاولات الانقلاب على الحكم في ليبيا وسورية.

نداء الوطن: هل وجود أعداد ضخمة من الجماهير يكفي لنطلق مصطلح “ثورة” على ما حدث حتى لو لم يتم إحداث تغيير في البنية الطبقية الحاكمة؟

د. هشام غصيب: ثورات 1848 في أوروبا أسماها ماركس ثورات ولم تحقق أهدافها وتم قمعها دموياً وسحقها. لم نكن أمام انتفاضة عادية، عشرات الملايين تخرج بمطلب واحد “الشعب يريد إسقاط النظام” وهذا فعل عظيم جداً. وأسقطوا رموز من هذا النظام، ولكن بفعل غياب التنظيم الجماهيري، استطاعت سيطرة شراذم الطبقة الوسطى على المشهد بعد سقوط النظام.

نداء الوطن: بمعنى أنها ليست ثورة عمالية؟؟!!

د. هشام غصيب: كنا نأمل أن تتطور إلى ثورة عمالية كما حدث في روسيا في ثورة فبراير 1917، وهي لم تحقق شيئاً على الأرض سوى سقوط القيصر، ومن ثم تطور الحراك ليتم الإطاحة في تشرين ثاني من نفس العام بسلطة البرجوازية وقيام دكتاتورية البروليتاريا.

الجماهير في الوطن العربي لم تكن منظمة تماماً في ظل غياب القوى المنظمة وغياب القيادة الثورية، وأصبح لدينا فراغ. وأصبحت الجماهير الشعبية تطالب السلطة بمطالب، وليس المطالبة بسلطة بديلة (مجرد تنازلات). والقوى الرجعية (الأوليغارشية العسكرية والإخوان) كانت الجهات الوحيدة المنظمة، وبالتالي هم من سيطر على المشهد.

وبالرجوع الى الدور الامريكي، باعتقادي أن الإخوان والقوى الرجعية خافت من الثورة لكنهم عرفوا كيف يتعاملوا معها ويحتووها. أما الأمريكان فقد كانوا يريدون قوة تحتوي الثورة واعتقدوا ان الإخوان قادرين على ذلك، ظناً من الأمريكان بأن العربي هو كائن ديني فقط وليس جزءً من التاريخ. وتفاجؤوا بخروج الملايين لإسقاط الإخوان .. فلم يكن البديل سوى الأوليغارشية العسكرية.

إن قوى الثورة المضادة من الإمبريالية وحلفاءها من الرجعية النفطية استطاعوا السيطرة على الثورة في تونس ومصر وبتقديري كان الهدف وقف تمدد هذه الثورات ومنع التحامها مع محور المقاومة، وقد نجحوا إلى حد كبير في مساعيهم.

انتهاء الجزء الأول.

في الجزء الثاني سنتحدث مع الدكتور هشام غصيب عن داعش والإسلام، وعن الوضع المحلي وواقع اليسار في الأردن.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى