ما بعد حلب: سقوط مشاريع ومتغيرات دولية وإقليمية
بعد خروج مدينة حلب ذات الثقل الديمغرافي والجغرافي والسياسي والعسكري من أيدي المسلحين وعودتها إلى حضن الدولة السورية، سقط المشروع الأمريكي الصهيوني بتقسيم المنطقة. فبحسب الكثير من المحللين، يعد هذا الإنجاز التاريخي ليس كغيره من أي من الإنجازات الميدانية التي حققها الجيش السوري وحلفاءه، فهو إنجاز لم ينهِ الحرب، لكنه إنجاز سيرسم خريطة جديدة للمنطقة من على قاعدة التفاهمات بدلاً من الحروب. فبانتصار الجيش السوري وحلفاءه في حلب سقط مشروع التقسيم أو الكانتونات أو الحكم الذاتي، وسقط بذلك المشروع التركي الاخواني الرامي للسيطرة على حلب ومقدراتها.
وعلى وقع الانتصار وتداعياته، تحرك المسار التفاوضي لكن هذه المرة برعاية روسية إيرانية تركية، وانتقال المفاوضات من جنيف إلى كازاخستان، ما يعني أن هنالك متغيرات دولية وإقليمية تؤسس لرسم خريطة جديدة يحددها محور المقاومة المنتصر ميدانياً.
في انتصار حلب، يكتب تاريخ جديد للمنطقة، وبمعادلات جديدة، وتترسخ موازين قوى إقليمية ودولية جديدة وأهمها ترسيخ محور المقاومة وانقلاب معادلاته من الردع إلى التوازن مع العدو الصهيوني.
ما بعد حلب، أهم المتغيرات الإقليمية والدولية
نداء الوطن في ملف ما بعد حلب، تستضيف المحلل السياسي اللبناني ومنسق شبكة الأمان للبحوث والدراسات الإستراتيجية الأستاذ أنيس النقاش الذي رأى أنه لا شك أن معركة حلب ليست معركة عادية, فإعادة توحيد المدينة وتطهير شرق حلب من المجموعات المسلحة أسس لمتغيرات وموازين قوى دولية وإقليمية في آن واحد.
فأولاً، من المعلوم أن المعركة الكونية على سوريا لم تكن معركة محلية لا بأدواتها البشرية ولا باستراتيجياتها الدولية والإقليمية، فالأهداف كانت تتخطى ما حاولوا تعريفه على أنه ثورة شعب ضد نظام. منذ اليوم الأول كان الحراك المحرك أساساً من الخارج والذي افتضح تمويله وتوجيهه وأدواته وأهدافه أنه يستهدف إعادة رسم التوازنات الإستراتيجية في الإقليم بل إعادة رسم خرائط المنطقة الجغرافية منها والسياسية بما تعني من إعادة رسم للتحالفات والأهداف والتوجهات. وكان المطلوب ترسيخ هيمنة الولايات المتحدة على الإقليم بالتعاون مع قوى إقليمية كانت وما زالت تدور في فلك المحور الصهيو- أمريكي. ولذلك نجد أن معركة حلب بنتائجها أطاحت بأحلام من أرادوا الوصول إلى هذه الأهداف. فمن خلال المعركة أثبت محور سوريا – إيران – روسيا أنه يعرف الأهداف المتوخاة من الحرب على سوريا, وأنه مصمم على إحباطها وإفشالها، بل بالذهاب أكثر من ذلك نحو تسجيل نقاط لصالحه مع انتهاء هذا الصراع.
ويشير الأستاذ النقاش إلى أن أهم المتغيرات على الصعيد الدولي، هي عودة روسيا للعب دور الدولة العظمى دولياً وليس فقط إقليمياً, وبالتالي كسر مبدأ القطبية الواحدة, كما أن التعاون السوري الإيراني أثبت على أن هذا التحالف متين جداً ومستعد لتقديم التضحيات في سبيل استمرار محور المقاومة في متابعة أهدافه وأهمها؛ مقاومة العدو الصهيوني. ولذلك لم نشاهد أي تراخي في العلاقة بين أطراف هذا التحالف، بل خرج من المعركة أكثر تلاحماً وصلابةً واستعداداً لخوض معركته الأساسية باتجاه العدو. كما أدت هذه المعركة إلى إظهار فشل حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل الإقليميين في تحقيق ما طُلب منهم، وفي تحقيق أحلامهم. هذه هي النتائج الأولية لمعركة الصمود ومعركة تحرير حلب.
سقوط شعار “إسقاط النظام” وترسيخ محور المقاومة
يؤكد الأستاذ أنيس النقاش القول بأن مشروع “إسقاط النظام” أصبح من الماضي, وأن الدولة السورية ستخرج من المعركة أكثر قوة في الإقليم ليس كدولة محورية فقط، بل كدولة مقررة لمصير المنطقة, فعلى أرضها وضدها، كانت الهجمة الكونية التي فشلت، وبالتالي النتائج ستكون من حجم المعركة وانتصاراتها.
ويؤكد النقاش أن مستقبل المنطقة في ظل انتصار المحور السوري الإيراني الروسي، قد رسخ المحور الإيراني السوري مع المقاومة المتمثلة بحزب الله, كما توسعت جبهة المقاومة من جنوب لبنان إلى كامل الحدود السورية مع العدو الصهيوني, هذا المشروع الذي كان يعمل عليه الرئيس بشار الأسد قبل اندلاع الأحداث والذي شنّوا الحرب على سوريا بغرض منع تحققه, ها هو يتحقق الآن أمامنا والعدو يعترف بذلك ويحسب له ألف حساب, هم الآن يتحدثون عن معركة مع محور المقاومة لا يمكن حصر الخسائر الإسرائيلية فيها ولا معرفة مستقبل الوجود الصهيوني على إثرها في حال وقوعها.
كما أن مواجهة الإرهاب في العراق والدور الإيراني في المساعدة على التصدي له قوّى لُحمة العلاقات الإيرانية العراقية، وأنتج الحشد الشعبي الذي بدأ يحمل نفس روح المقاومة للمشروع الأميركي التكفيري وهو يقترب, بعد أن غيّبوا الوعي العراقي لفترة من الزمن, من العودة إلى وضع أهداف الصراع مع العدو الصهيوني ضمن مهامه. وهنا نستطيع القول أننا بهذه المعركة استطعنا إخراج الحي من الميت بعد أن أرادوا للإقليم أن يصبح على شاكلة المطبعين والمستسلمين لإرادة الولايات المتحدة وإسرائيل, ففشلوا وانقلب السحر على الساحر.
إعادة رسم خريطة المنطقة
ويبدو أن معركة حلب قد حكمت على المشروع الأمريكي-الصهيوني المدعوم من تركيا والخليج بإعادة رسم خريطة المنطقة بالفشل.
ويرى الأستاذ النقاش أن اللعب بالحدود الجغرافية فوراً قد يسبب أزمات وتجاذبات غير مطلوبة تكون سلبية على أمن الإقليم. مشيراً إلى أنه من أنصار اتخاذ القرارات والسياسات التي تجعل من الحدود الحالية غير ذات جدية وأهمية كما هي اليوم, من خلال إلغاء تأشيرات الدخول بين دول الإقليم, وفتح الحدود للتبادل التجاري دون موانع جمركية, وإنشاء أسواق متكاملة متعاونة عوض التنافس الوطني الذي يضعف كافة الأطراف, كما يمكن اتخاذ خطوات أكثر تقدماً لإنشاء وحدات جمعية بين دول الإقليم على نمط الكونفدرالية التي تحافظ على وحدة كل إقليم دون تغيير في خريطته السياسية ولكن دمجه في وحدة توسع مع الأقطار والدول الأخرى في صيغة تعاون كونفدرالي تحصّن أمن الإقليم من الهيمنة الخارجية, وتلغي حدة الاستقطاب لصالح دول أجنبية من خارج الإقليم وتؤمّن عملية نهضوية اقتصادية علمية اجتماعية سياسية تساعد على تطوير مجتمعاتنا ونهضتها العلمية والاقتصادية. كل هذه الأفكار يرى النقاش أهميتها في مقابل مشروع تقسيم المنطقة إلى كانتونات والذي استطاعت معركة حلب وصمود الجيش السوري وقفه.
ويرى النقاش أن روح المقاومة التي تعززت في وحدة الموقف في مواجهة الهجمة الأميركية الصهيونية المتحالفة مع الرجعية العربية يجب أن تعزز وحدة الإقليم وتعاونه بصيغ سياسية متقدمة, هذا واجب مُلّح لتحصين هذا الانتصار والاستثمار فيه لكي لا يذهب إلى أماكن لا نستطيع أن نتحكم فيها في المستقبل، بل تعيد الكرّة علينا وتسمح لأعدائنا بالعودة لمشاريع صناعة الفتن والحروب الداخلية لإضعافنا.
ويشير النقاش إلى المهام الملقاة على محور المقاومة اليوم كما كانت في السابق، وهي استكمال عملية التحرر الوطني وعلى رأسها تحرير فلسطين، بالإضافة لمشروع توحيد المنطقة التي عاشت لمئات السنين تحت صيغ إمبراطورية متعددة الأوجه، وعلينا إعادة صياغتها بما يتلاءم مع روح العصر.