أخبار عربية

وداعا أبو صياح، إبن الشام المخلص الأصيل ..

في بداية الستينات من القرن الماضي، ظهر الثراء على جيران يقربونا لجد ثالث، وتشاركوا معا لإبتياع أول جهاز تلفزيون ظهر في جبل الجوفة.

كان الفصل صيفا، أرسلوا من يدعُ الأهل المقربين للإحتفال وإكرام وفادة الشاشة الفضية الجديدة التي أخذت مكانها على طاولة مرتبة عالية أمام مدخل البيت، وصُفت أمامها مقاعد من حجوم وإرتفاعات مختلفة. عندما دلفت مع أخي إلى الصالة الطويلة الحارّة في ذلك المساء ونحن نحمل بأيدينا هدية تليق بالمناسبة، كان الترحيب كبيرا، وتبادل الجميع بعض الكلمات والجمل المقتضبه وسط رهبة المناسبة، بدى أن أحدهم قد صعد إلى السطح ليساعد في إدارة اللاقط الهوائي بإتجاهات مختلفة قبل بداية البث في محاولة للحصول على أفضل صورة لدائرة ظهرت في منتصف الشاشة وتحمل عددا لا متناهيا لخطوط دقيقة بإتجاهات أفقية وعامودية!! ظهر العلم السوري وهو يرفرف مع السلام الجمهوري، لحظات من الدهشة وإلتمعت العيون وتسمرت على الشاشة الفضية المتلامعة، قال كبير البيت: هينا يا سيدي أحضرنا لكم السينما إلى البيت!! رد أحدهم: المحطة الوحيدة التي تبث في المنطقة هي سورية، لا تطلبوا منا أن نلتقط لكم لبنان، وكما ترون هو بالأسود والأبيض، بدنا قرن حتى نلونه!! تُليت نشرة الأخبار بإقتضاب ومُررت بعض الصور الجامدة.. درجة الإستماع في الصالة المعتمة جيدة، مع قليل من الهمهمات والبسملة والتسبيح.. فجأة ظهرت صباح، غنت مع موسيقى لبنانية بإيقاع جبلي، وظهر حولها بعض الصبايا بربطة أنيقة تعقص الشعر الطويل، وتنانير كاروهات في مستوى الركبة ويحتذين جزمات تغطي قصبة الساق!! حتى ذلك التاريخ لم أكن قد رأيت فتيات يدبكن، شعرت بالتقصير والضعف، فانا “حتى الآن لم أتعلم الدبكة”!! ما ان أكملت صباح ” نمرتها”،حتى إقترب الجميع من الشاشة، هم ينتظرون “المسلسل”، ولا بد أن يكون هذا شيئا هاما ومثيرا، تبادل الحضور بعض الملاحظات عن ” حلقة” الأمس ثم خفت الصوت في الصالة عندما ظهر أبو صياح، بدى فارع القامة، منتصبا، يلبس الثوب الطويل المقلم ويلف خصره بحزام حريري مطرز، ويميزه طربوش أحمر، وينتعل حذاءا يبدو بأنه قد ثنى رقبته ليلبسه “كشحاطة” !! في الواقع لم تفاجؤني هيئة البطل، ففي ذلك الوقت كنت أرى شبيهاتها بكثرة في شوارع وسط العاصمة وفي سوق السكر و”الحسبة”، ولكن ما شدني كطفل، هو حضور الرجل، وملامح الجدية والحكمة في حركاته ولغته وإستعداده الدائم للمساعدة والسخاء، وتمثل عادات الشهامة والأمانة في أحياء دمشق القديمة الحية!! وعندما زرت دمشق لأول مرة، أسرعت لحضور مسرحية له كانت مع أبو عنتر ومحمود جبر، وقد تركت عندي إنطباعا جميلا ظريفا!! غبت كثيرا عن المنطقة وإنقطعت عن تطور العملية الفنية في بلاد الشام، وعن أشكال الدراما السائدة، ولكن الصورة الأولى لأبي صياح “رفيق السبيعي” ، بقيت منطبعة بذاكرتي، وعندما قام زاهي وهبة، بمقابلته بالميادين، تابعت الحلقة كاملة، وكم شدني هذا الفنان الأصيل بكرم وجدانه وإحترافيته وتعلقه بوطنه وجمهوره وفنه، وهذا الدفق الإنساني بعباراته وترقرق عينيه دمعا على أوضاع سورياه وناسه!! أبو صياح لروحك الرحمة وعليها السلام .. وطيب الذكرى لكل محبيك..

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى