الأنتلجنسيا ودورها في التغيير: المثقف وعلاقته بمجتمعه
تعتبر الماركسية أن وجود أنتلجنسيا “طبقة مثقفة” كثيرة العدد وديناميكية، مهتمة بازدهار ثقافة ماركسية حية وخلاقة، عامل رئيسي في نجاح الثورة الشيوعية، وقدرة الأحزاب الشيوعية على التغيير، وذلك وفق بيري أندرسون في كتابه “الماركسية الغربية”.
نحاول في هذا التقرير تسليط الضوء على الدور المطلوب من الطبقة المثقفة في عملية التغيير، من خلال آراء اثنين من المختصين في الفكر الماركسي، وهما الدكتور توفيق شومر أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، والرفيق هشام علقم عضو المكتب السياسي ودائرة التثقيف الحزبي في حزب الوحدة الشعبية.
يتم الحديث كثيراً عن السلطة وعلاقتها بالمثقف وكيف يتم توظيف الثقافة في تأبيد الموروث وتأبيد السلطة الحاكمة عندنا، ونحن على دراية بأن هذا النوع من الثقافة يلعب دوره ضمن العلاقة الكولونيالية (علاقة التبعية) المتمثلة بنمط الإنتاج التابع الذي يسود مجتمعاتنا العربية. ويتم الحديث عن ضرورة وجود “مثقف عضوي” قادر على الانغماس في مجتمعه ليتمكن من رفع السويّة الثقافية للمجتمع العربي. أتمنى فعلاً أن يكون هناك سلطة للمثقف العربي، وأن يتم الاهتمام أكثر فأكثر بالثقافة المجتمعية في المجتمعات العربية علّنا نخرج من عصر الظلمات الذي نعيش ونتحول إلى مجتمعات منتجة للمعرفة لا متلقية لها فقط. ولكن ذلك يحتاج أن يتحول المثقف من مثقف متعالٍ إلى مثقف عضوي فعلاً. المثقف المتعالي يتميز بأنه يطرح المشاكل والإشكاليات انطلاقاً من حاجته الثقافية التي تغذيها نقاشات جانبية أو مطالعات وقراءات قد لا ترتبط بما يمكن أن يعرف على مستوى المجتمعات المحلية. وبالتالي يقدم ثقافة نخبوية لا ترتبط بهموم المجتمع. أما المثقف العضوي فهو المثقف الذي يعيش حاجات مجتمعه ويرتبط بشكل مباشر مع مشاكل المجتمع وهمومه.
ولكن لكي يكون المثقف العضوي قادراً على التواصل الفعلي مع مجتمعه فعليه أن يطور في لغته المفهومية بحيث لا يتعامل مع هذه اللغة المفهومية انطلاقاً من المنافسة العرفية مع أقرانه بل لكي يقدم المعرفة إلى المواطن العادي. أي أننا نحتاج من المثقف أن يتحول من شخص يتحدث إلى المجتمع إلى شخص يتحدث مع المجتمع، بعيداً عن المهاترات النظرية والاختلافات التأويلية للنصوص النظرية.
هناك نزعة لدى الكثيرين ممن يطلقون على أنفسهم بأنهم مثقفون إلى القول بأن الكثير مما يجب الحديث فيه على المستوى الثقافي لا يناسب طرحه بلغة بسيطة يمكن أن تصل إلى المواطن العادي فهذه المعرفة إن لم تصقل بالشكل الصحيح إنما تؤدي إلى “الكفر والإلحاد”. وبالتالي لا بد أن تبقى بين إطار محدد من البشر. أي أن هناك علوم ومعارف للعامة وهناك علوم ومعارف أخرى للخاصة. ولذلك يذهب البعض إلى القول بأن الفلسفة هي من هذا الصنف من العلوم الخاصة، لأن المواطن العادي لا يمكنه أن يفهم تعقيدات الفلسفة. وهذا الموقف مشابه كثيراً للموقف الذي أدى بنا حضارياً إلى ما نحن عليه اليوم، فلنتذكر معاً كتاب الغزالي حول “إلجم العوام عن علم الكلام”، فهل هذا ما نريده اليوم؟ أي هل ما نريده هو تأبيد الموروث؟
هنا نعود إلى دور المثقف. ففي عالمنا العربي يوجد نوعان من الثقافات السائدة. ثقافة الفكر اليومي، وهي ثقافة متدنية في مستواها المعرفي، تتمثل في المجمل مع الثقافة السائدة على المستوى العالمي، دون محاكمة أو تفكير. وهي بتمثلها بالثقافة السائدة عالمياً لا تأخذ بأرقى الحالات الفكرية التي وصلها الفكر الإنساني بل تحصر نفسها بثقافة عدمية متمثلة بما تقدمه القوة المسيطرة على المستوى العالمي فيما أصبح يعرف بثقافة الوجبات السريعة. هذا النوع من الثقافة لا يمكنه أن يصنع نهضة، بل أنه من العوامل التي تساهم في البقاء على حالنا.
أما النوع الثاني فله أكثر من شكل، لكنه وبكل تياراته يحاول أن يقدم حلاً نهضوياً على المستوى العربي. وتياراته الرئيسية تتمثل في التيار الليبرالي المستنير، التيار الديني المستنير، التيار القومي، والتيار الاشتراكي. ولكن هذه التيارات كلها لم تتمكن بعد من تنظيم حركة شعبية مساندة لأفكارها. والمعضلة تكمن في أن ممثلي هذه التيارات يفتقرون إلى مفهوم المثقف العضوي، ومن منهم يحاول أن يكون هكذا مثقف، فإنه ما زال يفتقد للمؤسسية التي يمكنها أن تجير عمله باتجاه النهضة الحقيقية. وتتمثل هذه الظاهرة بظاهرة الفرد المتحدث بشكل مؤثر دون وجود اتجاه حركي يوجه إليه من يؤثر فيهم لإحداث التغيير الاجتماعي.
التغيير الاجتماعي لا يمكن أن يكون تغيير فردي أو تراكم لتغييرات فردية، بل يحتاج إلى عمل مؤسسي منظم. لذلك تبرز الحاجة في المجتمعات الحديثة لوجود تنظيمات سياسية تستطيع أن تؤطر التأثير الممكن للمثقفين العضويين من أعضائهم، باتجاه تشكيل قاعدة للتنظيم السياسي، وبالتالي يمكنه من تعميم برنامجه الفكري. ولكن التيارات الأربعة السابقة تعاني اليوم من التشرذم، ومن فقدانها لمثقفين عضويين، وتعاني أيضاً من تدني الوعي العام بالمفاهيم والمصطلحات التي تحث على النهضة وتوضح مفهوم النهضة. ولذلك فإنني أطرح هنا في خاتمة هذا المقال ما طرحته غير مرة والمتمثل بالتالي: “نحتاج إلى مؤسسية ثقافية تستطيع أن تضع لنفسها برنامجاً نهضوياً تنويرياً مناضلاً وقادراً على المواجهة لتثبيت ثقافة عربية تنويرية نهضوية تستطيع أن تلتقي على ثوابت الثقافة ومنطلقاتها بغض النظر عن المنطلقات الفكرية والمبدئية لمثقفيها، وبغير ذلك ستبقى ثقافة الفكر اليومي العدمية هي الثقافة السائدة في المجتمع العربي. أي أننا نحتاج إلى حركة موسوعية عربية تضم فيها التيارات الثقافية، المواجهة للتبعية والمستنيرة، من جميع الاتجاهات الفكرية بهدف الوصول بسوية الوعي اليومي العربي إلى سوية يستطيع معها مواجهة هيمنة الفكر اليومي للقوة المهيمنة العالمية.”
سنحاول في هذه العجالة أن نقف على التخوم التي تفصل بين كل واحدة من هذه المصطلحات بعد محاولة تفسير توضيح لمعنى كل واحدة منها.
أنتلجنسيا وتعني الفكر والذكاء والملكة أو القدرة العقلية لاكتساب العلم والمعرفة وهي مرادفة لكل من المفكرين والمبدعين، الكلمة تعكس ظاهرة اجتماعية وسياسية تزامن ظهورها مع بداية عصر النهضة والتنوير_ الثورة الصناعية_ وهي تؤشر إلى فئة اجتماعية عابرة للطبقات الاجتماعية وليس طبقة بعينها ولا يحمل منتسبوها أيديولوجيا واحدة محددة.
يرى الكثيرون أن أصل كلمة انتلجنسيا روسياً وقد لعبت ظروف القمع القهري والاستبداد القيصري دوراً حاسماً في ظهور النواة الأولى للأنتلجنسيا الروسية والتي تجلّت أهم مواصفاتها برفض النظام السياسي والاجتماعي في صفوف محترفي القانون والطب والهندسة والتدريس.
أما عن الأصول الطبقية للأنتلجنسيا الروسية فهي خليط من الطبقة الوسطى وبعض النبلاء وحتى أبناء الفلاحين ممن تأثروا بالأفكار الاجتماعية والسياسية المساندة آنذاك في الغرب وأتاحت لهم الظروف الحصول على مستوى عالٍ نسبياً من التحصيل العلمي والمعرفي.
أما في الغرب وتحديداً في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، فقد ارتبطت هذه الظاهرة أساساً ببيئة قوة الإنتاج والتي تتميز في نمط الإنتاج الرأسمالي، بتقسيم العمل إلى يدوي وذهني والذهاب بعيداً في موضوع التخصص وبتبضيع كل شيء في المجتمع الرأسمالي.
أما فيما يتعلق بالمثقف والمثقف العضوي والمثقف التقليدي، فيرى غرامشي أن كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني وذلك لأن أبسط الأعمال اليدوية، وأعقدها تتطلب جهداً ذهنياً وكل فعالية بشرية يدخلها جهد فكري لذلك يستحيل عزل الإنسان الصانع عن الإنسان العارف فيمارس كل إنسان فعالية ذهنية معينة خارج نطاق اختصاصه المهني، وبالتالي يحق لنا القول أن جميع البشر مثقفون مع الاستدراك بأن جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقفين في المجتمع وهي وظيقة لا يملكها إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس ومن هنا نستطيع التمييز بين نوعين من المثقفين:
المثقف العضوي (أو الحزب بالمعنى الجمعي) وهو عند غرامشي الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من العمال والفلاحين الفقراء.
أما المثقف التقليدي فهو الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الطبقة أو الكتلة التاريخية السائدة منذ (العبودية والإقطاعية) أو عصر البرجوازية كما في البلدان الرأسمالية الحديثة أو في البلدان التابعة والمتخلفة حيث تهيمن الطبقة السائدة أو تحالف البيروقراطية والكمبرادور والبرجوازية الرثة كما هي الحال في بلادنا.
في ضوء ذلك يحدد غرامشي دور المثقف ومسؤوليته تجاه الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها سواء في إنتاج المعرفة أو الموقف منها، فالمثقف عنده كما أكدنا سابقاً هو كل إنسان يقوم خارج نطاق عمله مهنته بنوع من أنواع النشاط الفكري.
وعليه، فإن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير من الفقراء والمحرومين والكادحين ويعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته.. إن أي مثقف لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وإن كان يحمل أرقى الشهادات.