أخبار عربية

تحرير جرود عرسال والقلمون الغربي.. دروس عسكرية حية

تحل هذه الأيام ذكرى عمليات تحرير منطقة الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا، في جرود عرسال والقلمون الغربي وجرود رأس بعلبك والقاع عام 2017، في عملية عسكرية “نظيفة” على المستوى التكتيكي والعملياتي، وكان لها تأثير مضاعف على حاضر ومستقبل مكافحة الإرهاب التكفيري ومقاومة أرتداداته وأمتداداته إلى العمق اللبناني والسوري.

بشكل عام، يخطئ كثير من المحللين والمتابعين في نظرتهم للعمليات العسكرية في هذا النطاق على أنها عمليات معزولة أو مؤقتة أو غير مرتبطة بالحرب الدائرة على الأراضي السورية. فمعارك هذا النطاق هي امتداد لسلسلة طويلة من المعارك التي خاضها حزب الله والجيش العربي السوري والجيش اللبناني لمحاولة تحجيم وإنهاء التواجد الإرهابي في النطاق الحدودي بين لبنان وسوريا، حيث كانت عملية القصير في منتصف عام 2013 هي بداية الإهتمام بهذا المحور، وتلاها عمليات متعددة اخرى منها عمليات الجيش اللبناني المتتابعة في عرسال ومحيطها منذ أواخر عام 2014، بجانب عمليات حزب الله والجيش العربي السوري في الزبداني أواخر عام 2015، والقلمون أواخر عام 2013 ومنتصف عام 2015، وعمليتي “أمير 1 و2” اللتين نفذهما حزب الله لتأمين نطاق جرود بعلبك وجرود نحلة وجرود بريتال خلال عام 2014.

هذه العمليات، وعلى رأسها عمليات القلمون، أدت الى انحسار تدريجي لمناطق سيطرة وتواجد المجموعات الإرهابية “جبهة النصرة وتنظيم داعش” على الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا، إلى أن وصلت مساحة سيطرتها في هذا النطاق منتصف عام 2017 الى 1000 كيلو متر مربع، في مناطق القلمون الشرقي بالجانب السوري، وجرود عرسال والسلسلة الشرقية لجبال لبنان من الجهة اللبنانية.

 

الإستراتيجية العامة لخطة العمليات

a306f087 08bf 46b2 9f81 250765476035

وصل كل من الجيش العربي السوري وقيادتي حزب الله والجيش اللبناني الى قناعة منتصف عام 2017، مفادها ضرورة الإنهاء الكامل للتواجد الإرهابي المتبقي على الحدود المشتركة، والذي يشكل ضغطاً متزايداً على الداخل اللبناني بشكل خاص. ولذلك تم اتخاذ القرار بتقسيم الخطة العامة للعمليات الى خطة لثلاث عمليات عسكرية فرعية، حيث بدأت وحدات حزب الله والجيش السوري في العملية الأولى، التي تمت تسميتها “أمير 3″، بهدف رئيسي وهو استهداف الجيش السوري ووحدات حزب الله للمناطق التي تتواجد فيها حصرً جبهة النصرة،ـ وذلك لإسباب كثيرة اهمها ان جبهة النصرة كانت تسيطر على الجزء الأكبر من النطاق الخارج عن سيطرة الدولة اللبنانية والسورية على الحدود المشتركة.

بالفعل انطلقت العملية الأولى أواخر شهر تموز/يوليو 2017، بهدف اقتلاع تنظيم جبهة النصرة والفصائل المساندة له “مثل سرايا أهل الشام وأحرار الشامل”، من المناطق التي يسيطر عليها على الخط الحدودي بين لبنان وسوريا، وهي في الجانب اللبناني نطاق جرود عرسال من وادي الزهوة جنوباً الى وادي الخيل ووادي حميد شمالا بما فيها المناطق المتاخمة للجهة الشرقية لعرسال ومخيمها، أما في الجانب السوري فكانت سيطرة جبهة النصرة تتمحور في المناطق المتاخمة لجرود فليطة والتلال والمعابر الواقعة بينها وبين الخط الحدودي مع جرود عرسال مثل معبر الزمراني.

العمليات المدفعية، سواء من جانب وحدات الجيش السوري في الجبهة الرئيسي بالقلمون الغربي “جرود فليطة”، او عمليات وحدات المدفعية عديمة الإرتداد والمدفعية المتوسطة والثقيلة لحزب الله في محور جرود عرسال الرئيسي في الناحية اللبنانية، كانت مؤثرة بشكل كبير على كل من معنويات وتحصينات عناصر جبهة النصرة، لأن جبهة النصرة كانت تعتمد بشكل رئيسي في استراتيجيتها الدفاعية في النطاق اللبناني تحديداً على التحصينات القوية التي قامت بإنشائها على مدار سنوات، مستفيدة بالمعدات والآليات والمواد الخام المتوفرة في المقالع والمحاجر الموجودة في جرود عرسال، وكذا من الطبيعة الجغرافية الجبلية لهذه المنطقة. سلاح الجو السوري ممثلاً في قاذفات “سوخوي-22” نفذت طلعات مؤثرة ومركزة على معظم مقرات جبهة النصرة ومعامل تصنيع القذائف ومحطات الإتصالات في نطاق العمليات في الناحية السورية واللبنانية، وتحديداً في نطاق جرود فليطة ومعبر الزمراني ووادي عجرم والمناطق الجنوبية لجرود عرسال.

على مستوى التحرك الميداني في العملية الأولى ، استفادت وحدات حزب الله والجيش السوري من المهل السابقة التي منحتها قيادة حزب الله الى عناصر جبهة النصرة لمغادرة مواقعهم، ومن المدى الزمني الكبير الذي فصل بين المراحل السابقة من العمليات، وتمكنت من جمع معلومات استخباراتية دقيقة حول أهم مقرات جبهة النصرة ومحطات أتصالاتها ونقاط الضعف في تحصيناتها، ومن ثم استخدمت هذه المعلومات في توجيه نيران المدفعية بصورة دقيقة، وكذا في تنفيذ المناورات التي قامت بها وحدات المشاة التابعة لحزب الله، والتي كانت هجماتها تتم بثلاثة أشكال من التحركات، الأول هو التحرك المباشر الجبهوي والذي تكون فيه القوات المهاجمة في تماس مباشر مع مواقع جبهة النصرة، النوع الثاني عبارة عن تحركات التفافية بغرض فصل المواقع الأمامية المعادية وعزلها، والإستفادة من ضعف التحصينات الخلفية نظراً لأن تركيز مسلحي جبهة النصرة كان دوماً منصباً على تدعيم التحصينات الأمامية لمواقعهم المواجهة لمحاور هجوم حزب الله. النوع الثالث من التحركات كانت عمليتي إحاطة تسللت في الأولى وحدات خاصة تابعة لحزب الله بعمق يتجاوز  كيلو متر في عمق مناطق سيطرة النصرة في وادي زعرور بجرود عرسال، وفي العملية الثانية تسللت هذه الوحدات بالتنسيق مع الجيش السوري بإتجاه تلة البركان في القلمون الغربي، مما حجم بشكل كبير من هامش المناورة والإمداد المتوفر لجبهة النصرة في الاتجاهين.

هذا التكتيك أثمر عن نتائج باهرة في اليوم الأولى للعملية الأولى، حيث حررت القوات المشاركة ما يصل الى 30 كيلو متر مربع، تتضمن أكبر مرتفعات جرود عرسال وهي “ضهر الهوة”، وحقق الجيش السوري في جبهة جرود فليطة تقدماً كبيراً ايضاً في اليوم الأول. في اليوم الثاني قامت وحدات حزب الله بتأمين منطقة وادي حميد من الجهة الشمالية تحسباً لمحاولة عناصر جبهة النصرة الهروب الى منطقة الملاهي والمخيمات في تخوم عرسال الشرقية. كذلك حققت وحدات الجيش العربي السوري وحزب الله في القلمون الغربي تقدماً في منطقتي وادي العوينة وشعبة القلعة التي تعد من المناطق الرئيسية لتواجد جبهة النصرة في هذه المنطقة، وبنهاية يومين من العمليات تمكن عناصر حزب الله من السيطرة على وادي الخيل والسيطرة على مقر أمير جبهة النصرة في هذا النطاق أبو مالك التلي، لتتم بذلك محاصرة ما تبقى من عناصر جبهة النصرة في جيب لا يزيد عرضه عن 6 كيلو متر مربع في التخوم الشرقية لعرسال وتحديداً في منطقة وادي حميد ومدينة الملاهي، وحينها ظهرت ميزة أخرى من مزايا التكتيك الذي اتبعه حزب الله، حيث أحجم عن تصفية ما تبقى من عناصر لجبهة النصرة في هذا الجيب، في محاولة لمعرفة مصير المخطوفين من أدلب، وكذلك تأكيداً على مبدأ أساسي وضعته قيادة حزب الله منذ بدء هذه العملية وهو الفتح الدائم لباب التفاوض حقناً للدماء مع بقاء هذا الباب دوماً تحت النيران بحيث يكون الضغط مستمر على عناصر جبهة النصرة، وهو ما أدى في النهاية الى قبولهم بالانسحاب من كافة المناطق التي تواجدوا فيها بعد أن تمت محاصرتهم بطوق محكم.

بإنتهاء هذه العملية التي دامت ثلاثة أيام فقط، فقدت جبهة النصرة تواجدها بالكامل على الأراضي اللبنانية، وعلى الخط الحدودي بين سوريا ولبنان، وانهزمت رهاناتها على التناقضات المذهبية في لبنان وعلى ورقة المخيمات واستبعادها لإطلاق حزب الله والجيش السوري لعمليات عسكرية في هذا التوقيت وفي ظل الظروف الميدانية في بقية أنحاء سوريا.

بعد هذا النجاح الباهر، قام عناصر حزب الله بتسليم تدريجي لكافة المقرات التي تمت السيطرة عليها من وادي حميد شمالاً الى وادي الخيل جنوباً الى وحدات الجيش اللبناني، ومن ثم بدأت فعاليات العملية الثانية لحزب الله والجيش العربي السوري، والتي تمت تسميتها “إن عدتم عدنا”، واستهدفت إنهاء تواجد تنظيم داعش على الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا، وتحديداً في  تلال وجرود القاع ورأس بعلبك وجرود الجراجير شمالي عرسال من الجهة اللبنانية، وفي المناطق الغربية لمناطق البريج وقارة وجرود الجراجير في القلمون الغربي من الجهة السورية. وقد أطلق الجيش اللبناني بالتزامن مع هذه العملية عمليته “فجر الجرود” بهدف تطهير الجانب اللبناني من الحدود من تواجد تنظيم داعش.

كلمة السر في نجاح العمليتين كانت التنسيق الوثيق بين غرف عمليات القوات المشاركة فيهما وهي الجيش اللبناني ووحدات حزب الله والجيش العربي السوري. وهذا يشمل تنسيق الأهداف والعمليات الجوية والمدفعية، وإشعار قيادات الغرف بعضها البعض بالتحركات الميدانية نظراً لتشابك الجبهات في هذه المرحلة بعد أن باتت المساحة الخارجة عن السيطرة على الحدود 450 كيلو متر مربع فقط. الجيش اللبناني بدء عملياتها بتمهيد مدفعي مؤثر وبمواكبة من المروحيات، وتحرك من محورين اساسيين من مناطق شمالي القاع ورأس بعلبك، في حين تحرك وحدات حزب الله من مناطق شمالي وادي حميد وعرسال باتجاه الشمال الشرقي بهدف الوصول إلى خط المعابر الحدودية، وقد تحرك ايضا من الجهة الجنوبية لجبهة الجانب السوري من منطقتي جرود فليطة وجرود الجراجير باتجاه الشمال الغربي والغرب لنفس الغرض.في ما يتعلق بمحاور الجيش السوري فقد كانت ثلاث محاور اساسية، الأول من منطقة البريج بأتجاه جبل الموصل والزويتينة، ومن منطقة قارة بأتجاه مرتفع حليمة قارة الإستراتيجي والمعابر غرباً خاصة مرطبيه وميره وفيخه، والثالث من جرود الجراجير بإتجاه منطقة أبو حديج غرباً.

أسلوب القتال المكثف والمتزامن بين الوحدات المقاتلة ضمن العمليتين الثانية والثالثة، ادى الى موجة أستسلام كبيرة من جانب عناصر داعش الذين تلقوا ضربات قاصمة من المدفعية والطيران أدت بعد أيام من بدء العمليتين الى فقدانهم كافة المعابر الحدودية التي كان التنظيم يسيطر عليها بين سوريا ولبنان، بعد وصول قوات الجيش السوري في محور البريج الى تماس مع قوات الجيش اللبناني المتقدمة من محور القاع في معبر فيخه الحدودي، وبذلك تقلصت المساحة التي يسيطر عليها التنظيم الى نحو 50 كيلو متر. وهذا أجبر قيادة التنظيم في النهاية على طلب التفاوض، ومن ثم انسحابه من ما تبقى من مناطق تحت سيطرته، بعد أن ادلى عناصره بالمعلومات المطلوبة عن شهداء الجيش اللبناني واية معلومات اخرى. وبرفع العلم اللبناني على مرتفع حليمة قاره، أعلى مرتفعات القلمون الغربي، تم إنهاء المهام المطلوبة من العمليات الثلاث بنجاح كامل.

 

استخدام ذكي ومبتكر للأسلحة المتوفرة

6c768100 aaa9 4815 8b05 2dd0b9a52339

من أبرز المفاجأت التي أظهرتها العمليات الثلاث كان نوعية وطريقة استخدام عناصر حزب الله لما يتوفر لهم من أعتدة وأسلحة، فقد كشفت المعارك عن امتلاك حزب الله لمجموعة متنوعة من المدافع وراجمات الصواريخ المتوسطة والثقيلة، من بينها المدافع عديمة الإرتداد، ومدافع الهاون من عيارات 60 و80 و 120 ملم،  وراجمات الصواريخ من عيار 107 ملم و122 ملم، بجانب تعديلات تمت ملاحظتها لأول مرة على المدافع الروسية الصنع من عياري 122 و130 ملم وتحويلها إلى مدافع ذاتية الحركة بتثبيتها على شاحنات ثقيلة، مما وفر سهولة في الحركة والتموضع خاصة في مثل هذه التضاريس الوعرة.

كذلك ظهر مع عناصر حزب الله عدة دبابات من نوع “تي-55” وفرت تغطية نارية داعمة مماثلة لما تقدمه المدفعية، وكذلك بعض من منظومات الدفاع الجوي ذاتية الحركة من عياري 14.5 و57 مللم، والتي تم إستخدامها ايضاً في عمليات الدعم النيراني. صواريخ “كورنيت” المضادة للدروع كان سلاحاً رئيسياً خلال العمليات، وتم بها بدقة عالية استهداف المقرات والعربات المفخخة، خاصة في العمليتين الثانية والثالثة.  وقد كان لافتاً اعتماد حزب الله على عربات خفيفة رباعية الدفع، وعلى وسائط نقل خفيفة مثل الدراجات النارية، لنقل عناصره في المناطق الوعرة، وهو ما سهل بشكل كبير وصولهم الى أهدافهم عوضاً عن استخدام الآليات الثقيلة.

الجيش اللبناني من جهته دفع بمفارز من مدفعيته الثقيلة عيار 155مللم، والتي تميزت بالإضافة إلى قدرتها التدميرية، بإستخدامها للذخائر الموجهة بالليزر، والتي تحقق اصابة دقيقة عن طريق تتبع هدف شعاع الليزر، وفي هذه النقطة قام طيران الجيش اللبناني بحل معضلة تعذر وجود عنصر من عناصر الجيش اللبناني بجوار الأهداف المراد قصفها للتهديف بالليزر على هذه الأهداف، وقام بجعل هذه العملية تتم عن طريق نقل عنصر التهديف على متن مروحية يقوم من على متنها بالتهديف وتحديد نيران المدفعية. كذلك استخدمت مروحيات الجيش تعديلات تمت في وقت سابق عليها بحيث تجعل من مروحيات النقل والاستطلاع مروحيات قتالية بتثبيت راجمات الصواريخ غير الموجهة او قنابل تقليدية على نقاط تعليق أسفل بدن المروحية، مما أتاح أستهدافاً فعالاً لمقار داعش وعرباته المفخخة بالمشاركة مع عناصر صواريخ “ميلان” المضادة للدروع.

الجيش السوري كان حاضراً بقوة خلال العمليات الثلاث بسلاح الجو، كما أن الدبابات السورية من نوع “تي-72” وفرت في القلمون الغربي تغطية نارية ممتازة لحركة المشاة، وإن كان التركيز الأكبر هو على عمليات المدفعية السورية مختلفة العيارات، والتي كان لها أثراً نفسياً وميدانياً كبيراً، خاصة وان البعض راهن على عدم دخول الجيش السوري في معارك على هذه الجبهة نظراً للظروف في الجبهات الأخرى.

 

المصدر
الميادين
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى