فلسطينيو الداخل ونقض وهم الخصوصية
في الثلاثين من آذار من عام 1976م حاولت سلطات العدو الصهيوني كسر الإضراب الجماهيري الذي دعت له لجنة الدفاع عن الأراضي كردّ على قرار العدو بمصادرة آلاف الدونمات ذات الملكية الخاصة أو المشاع.
أدت هذه المحاولة إلى انفجار مظاهرات واحتجاجات ما بات يعرف في التاريخ الفلسطيني بيوم الأرض والتي عمّت الداخل الفلسطيني (المحتل عام 48).
سقط في هذه المظاهرات ستة شهداء أحدهم “رأفت الزهيري” اللاجئ من مدينة الطيبة إلى مخيم نور شمس في طولكرم, سنعود إليه لاحقًا.
قبل الإضراب وفي 18 آذار تحديدًا, اجتمع رؤساء المجالس المحلية العربية وأعضاء من حزب العمل الصهيوني في شفا عمرو وصوّتوا ضد الإضراب والاحتجاجات؛ مع انتشار خبر التصويت خرجت مظاهرة حاصرت مبنى البلدية وقد فُرّقت بالغاز المسيل للدموع. يومها وقف الراحل توفيق زيّاد ليعلن أن قرار الإضراب هو قرار الجماهير.
يأخذنا هذا المدخل إلى نقطتين أساسيتين:
أولًا: قرار الإضراب احتجاجًا والمظاهرات ضد كسره هو قرار الجماهير الفلسطينية خارج إطار المؤسسة الصهيونية، سواء كانت كنيست أو مجالس محلية، وقادة المظاهرات من أحزاب ولجان وشخصيات كانوا قادة لهم وزن جماهيري شعبي بفعل التحامهم بنبض الجماهير، لا بفعل مُسمّياتهم كأعضاء في الكنيست أو رؤساء لمجالس محلية.
هذا النضال الوحدوي بقيادته الموحّدة خارج أسوار الكنيست “كسجن لاحتجاز أدوات المواجهة” والمؤسسة الصهيونية هو الذي أنتج يوم الأرض كحدث محوري في الصراع على الأرض والاشتباك بين الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948م والدولة الصهيونية, ليس لأنها المرة الأولى التي تُنظّم فيها احتجاجات من هذا النوع وهذا الجَيَشان منذ عام 1948م، ولكن لأن يوم الأرض أعاد تعريف العلاقة مع المؤسسة الصهيونية كعلاقة اشتباك مما أعاد الصراع إلى جذوره الأولى؛ صراعًا على الأرض كعنوان جامع.
يقودنا هذا إلى أن ما أنجزته الجماهير وقيادتها أنّ يوم الارض جاء بفعل الضغط الشعبي في الشارع والاشتباك المباشر مع المستعمِر, سينتج ذلك أيضًا بعد سنين إيقاف مصادرات للأراضي في أم الفحم (معركة الروحة)، وفي أم السحالي في شفا عمرو وتجميد قانون برافر, أما الأعضاء الفلسطينيون في الكنيست الصهيوني ورؤساء الهيئات والمجالس المحلية الذين شاركوا في مثل هذه الأحداث فكانت قوتهم في الالتفاف الشعبي حول هذه القضايا لا بسبب أنهم أعضاء كنيست. فمن المعلوم أن الاستعمار بمختلف مؤسساته لا يمنح الشعوب المستعمَرة إمكانية تخطّي سقف النظام الاستعماري, والكنيست كمؤسسة استعمارية لن يمنح الأعضاء الفلسطينيين فيه هذه الفرصة، لذا فإن ما يسمى بالنضال من داخل الكنيست لم يقد ولن يقود إلى المواجهة مع الدولة الصهيونية، وتجاوز سقفها والاشتباك معها بقدر ما أدى ويؤدي إلى تحويل النضال السياسي والوطني الذي من المفترض أن تقوم به أحزاب وقوى وشخصيات فلسطينية إلى نضال حياتي خدماتي يهدر طاقات هذه المكونات ويحولها إلى مجموعة من “محصلي الديون” وموظفي خدمات الجمهور.
يسعى الكيان الصهيوني إلى وجود تمثيل فلسطيني من أحزاب غير صهيونية (يوجد أعضاء كنيست فلسطينيون عن أحزاب صهيونية، مثل: الليكود والعمل) والهدف من إسناد هذا الدور من اللعبة لأحزاب وطنية، هو:
- قدرة الحزب الذي يتبنى خطابًا وطنيًا وقوميًا على جمع الناس حوله، على عكس الفلسطينيين في الأحزاب الصهيونية والذين يُنظر لهم كعملاء مما يصعّب على الخطاب الوطني البديل “خطاب المقاطعة للكنيست مثلًا” حشد الجماهير للعمل خارج الأطر التي تحددها الدولة الصهيونية.
- إيهام الفلسطيني قبل غيره بديمقراطية الكيان الاستعماري، بالتالي فإنه مواطن له حقوق وعليه واجبات.
- تدجين الفلسطيني وتخفيض منسوب الصراع بينه وبين (الدولة) إلى حده الخدماتي “الدولة دولتنا والتعايش هو المطلوب”، وخطابات المساواة الكاملة والأقلية القومية تصب في هذا الهدف.
وبعيدًا عن أنّ المشاركة في الكنيست ليست إلا أداة تجميلية للعدو فإنها تكلس القيادة وخوفها على فقدان مكانتها وامتيازاتها كوسيط, الأمر الذي جعل مصادرات للأراضي من أجل بناء جدار الضم والتوسع ومصادرات في صحراء بئر السبع “النقب” تمر دون رد فعل. هذا أفقد الفلسطينيين البوصلة فارتد عنف الكيان تجاههم إلى داخل صفوفهم.
ثانيًا: عودة إلى “رأفت الزهيري”
امتدت الاحتجاجات والمظاهرات التي عمت الداخل المحتل من عام 1948م إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
رأفت الذي كان أحد شهداء يوم الأرض، لم يكن آخر الشهداء الساكنين في المناطق المحتلة عام 1967م في يوم الأرض أو في مناسبات إحياء ذكرى هذا اليوم. ومنذ عام 1976م لم تمر ذكرى بدون تصعيد وطني ضد العدو الصهيوني كتقليد فلسطيني في إحياء المناسبات الوطنية, ربما بهت الأمر من بعد أوسلو, الذي جزّأ وحدة الشعب الفلسطيني وقضيته، وبالتالي اعتبار كل تجمع فلسطيني شأن داخلي للمكان الذي تعيش فيه, لكن استمرت الذكرى بالحفر عميقًا في الوجدان الوطني الفلسطيني وظلت مُحفّزًا للاشتباك يعلو حينًا، وينخفض حينًا حسب الحالة السياسية, ومسيرات العودة وكسر الحصار الممتدة منذ عام في قطاع غزة مثال واضح على أن يوم الأرض مثله مثل النكبة حدثٌ جامعٌ للشعب الفلسطيني أينما كان وأينما تواجد.
في 28/9/2000م، رفض الفلسطينيون اقتحام أرييل شارون رئيس وزراء الكيان الصهيوني للمسجد الأقصى وتدحرج هذا الرفض الذي بدأ برشق شارون ومرافقيه بالأحذية ككرة الثلج ليتحول إلى ما صار يسمى وطنيا انتفاضة الأقصى, ارتقى بدايتها 13 شهيدًا من فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948م في ما عُرف بهبّة أكتوبر, ولتستمر الانتفاضة حتى عام 2005م.
وكما في كل تاريخ الصراع العربي الصهيوني شهدت هذه الانتفاضة مشاركة في العمل الكفاحي من أم الفحم، والناصرة، وكوكب أبو الهيجا، وباقة الغربية، وعارة وغيرها, بعضهم مرّ عليه 36 عامًا في السجون الصهيونية.
في 30/3/2003م، شهدت مدينة أم خالد المحتلة عملية استشهادية تبيّن أنّ منفذها هو الاستشهادي “رامي غانم” من بلدة دير الغصون شمال طولكرم.
- لماذا هذا السرد وهذه الأمثلة؟
ببساطة فإن تاريخ الصراع العربي الصهيوني يثبت بالملموس أنّ جميع مفاصله هي أحداث وتواريخ جامعة تُوحّد خلفها ومن أجلها الشعب الفلسطيني وتلزمه بهذه الوحدة, وأنّ خطاب الخصوصية (كل تجمع فلسطيني له شأن مختلف وطريق مختلف) وهمٌ يجري الترويج له من منطلق التجزيء؛ فالهدم والقتل وغيرها من الاجراءات الاستعمارية تستهدف الوجود الفلسطيني أينما كان في كامل فلسطين من البحر إلى النهر (1948 و1967 والقدس), والدم الذي سال تجاوز هذه الحدود المتوهّمة فلا يوم الأرض انحصر في مناطق 1948م ولا انتفاضة الأقصى توقفت في القدس.
يقودنا هذا إلى ضرورة الارتقاء إلى مستوى الدم بخطاب سياسي ووطني جامع وموحد لكل الشعب الفلسطيني يشتبك مع السقف الصهيوني على طريق هدمه وإزالته مهما بهظت الكلفة لا التعايش تحته أيًا كانت الامتيازات.
ذلك يعني وعي الصراع كصراع وجود شامل ومفتوح، وأنّ الرؤيا المنظِّمة التي تتجاوز الحدود ولا تلتزم بها تحت وهم الخصوصية هي النهج السليم للمواجهة.
ومن نافل القول أنّ الخطاب السياسي الذي ينسجم مع التجزئة سقفًا كخطاب أوسلو والتسوية وخطاب المشاركة في الكنيست الصهيوني لا يُصنّف كخطاب مواجهة على طريق التحرير.