أخبار عربية

ثلاثة عشر عاماً على الغزو الأمريكي.. وجراح العراق لم تندمل بعد

صادف عودة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر إلى الواجهة السياسية بقوة، في الذكرى الثالثة عشر للغزو الأمريكي للعراق، وبعد تصاعد الاحتجاجات الشعبية التي بلغت ذروتها باعتصام أنصاره أمام مداخل المنطقة الخضراء المحصّنة في وسط بغداد، ويجب التنويه هنا، بأن التيار الصدري قد دخل على خط الاحتجاجات الشعبية التي نظمها في وقت سابق طيف واسع من قوى المجتمع المدني في أكثر من خمس محافظات وسط وجنوب العراق، ولّدت حالة من التفاؤل بعودة المبادرة للتيار المدني في الشارع العراقي، فبدت “الهبّة” الصدرية كالتفاف على هذا التيار وتجيير الحراك الشعبي لصالح استمرار سطوة القوى التقليدية بأبعادها المذهبية والعصبوية على الشأن العراقي.

 

تهيمن الأحزاب الكبيرة على السلطة في بغداد من خلال المحاصصة السياسية وتتقاسم الامتيازات والمكاسب، وتعيد تدوير جميع المناصب العليا في الحكومة والأجهزة الأمنية والجيش فيما بينها، فتأصّلت المحسوبية السياسية الممنهجة، وانتشرت الرشوة والاختلاس، في ظل سيادة دستور تفتيتي قاصر، ونزاعات مذهبية وعرقية وطائفية وغياب شبه كامل لرؤية سياسية واضحةٍ عند كل أطراف العملية السياسية العراقية بتنوعاتها.
يستنزف الفساد الموارد المالية للحكومة المركزية في وقت تراجعت فيه إيرادات الخزينة نتيجة هبوط أسعار النفط وزيادة الإنفاق على حرب طويلة مؤلمة ضد تنظيم “داعش”، ورغم أن أراضي العراق تحوي بعضاً من أكبر احتياطات النفط في العالم، إلا أن أبناؤه يعانون البطالة والفقر وتردي البنى التحتية وسوء الخدمات العامة، وضعف قبضة السلطة المركزية على نواحي البلاد.
رغم الدعم الذي حظي به رئيس الوزراء العراقي من المرجعية الدينية والتأييد الشعبي، والدعم “المعلن” من واشنطن وطهران، إلا أنه يواجه صعوبات كبيرة وعراقيل متعددة في سعيه لإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية ملموسة، وفوق ذلك، يجد العبادي نفسه عالق وسط حرباً طائفية وإرهابية طويلة الأمد، ولم يكفي التوحد لقتال “داعش” لتخفيف حدة الصراعات السياسية الحادة على السلطة حتى داخل الطائفة الواحدة، وفي هذا الإطار يحتجّ التيار الصدري، وتيار عمار الحكيم على “الحصة الكبيرة” الممنوحة لــ “حزب الدعوة” ورئيسه نوري المالكي، الأمر الذي يفسر تفجر الاحتجاجات الموسمية لخصوم ومعارضي الحكومة، ويزيد من تعقيد الأمور كون معظم هذه القوى تمتلك أسلحتها ومليشياتها الخاصة.
في هذه البيئة السياسية شديدة الاستقطاب، اضمحلّت السلطة القضائية وتولدت مستويات عالية من الفساد في قطاعي الأمن والجيش، ونمت مراكز قوى متعددة ونافذة لدرجة بدا فيها من شبه المستحيل فرض إصلاحات جوهرية, على أساس فاسد بنيوياً، وأصبحت أي خطوات لدفع الإصلاحات تُثير قدراً كبيراً من النزاع والتوتير.
لقد كرّس الاحتلال الأمريكي للعراق فكرة ضرب وحدة الوطن والشعب بحل الجيش العراقي وترويج الطائفية ومصطلح الفدرالية، وليس مصادفةً أن تأتي موجة الغضب الجماهيري هذا العام، لتعيد إلى الأذهان حجم الخراب والقتل والإرهاب الذي خلفه العدوان الأمريكي. وأمام الخسائر الجسيمة التي تعرضت لها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، كان قرار أوباما في نهاية العام 2011، إنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق متذرّعاً بعقيدة التخلي عن دور أمريكا كقوة مهيمنة في منطقة مضطربة بعمق، وطرح نظرية “إعادة التمحور” في اتجاه جنوب شرق آسيا لمواجهة صعود الصين والهند باعتبارهما القوتين الأكثر تماسكاً في القرن الحادي والعشرين، بعد أن ترك العراق في حالة وهن ونظام مذهبي فاسد وفراغ أمني ودفاعي، وهكذا وقعت أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية أمام عودة “القاعدة” التي سرعان ما تحولت إلى “داعش” التي فرضت بالإرهاب سيطرتها على معظم شمال وغرب البلاد، ويُعتبر الوجود الإرهابي “لداعش”، أخطر التحديات التي يواجهها الكيان العراقي بشكل عام، ورغم أن التوازن العسكري بدأ يميل نسبياً لصالح الجيش العراقي، وقد استعادت القوات العراقية حوالي 40% من الأراضي التي سيطرت عليها “داعش” منذ عامين، ولكن يبدو بأن توحد الجميع المعلن في هذه الحرب بما فيها الأطراف الدولية الضالعة بالحالة العراقية, لم يمنع من بروز أخطار حقيقية ومعيقات هامة أمام إتمام هذه المهمة وخاصة مع إعلان نيّة الحكومة في تحرير الموصل. في هذه الظروف تبدو محاولات “داعش” إنتاج أسلحة بيولوجية أو كيماوية، وحتى تهديداتها بتدمير السدود وإغراق بعض المدن والقرى، موضوعات من الممكن التحوط لها وصدها، أمام هول الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية المستشرية والكامنة بين مكونات الشعب العراقي، وداخل هذه المكونات نفسها، حتى أن المأزق العراقي لا يبدو متعلق بداعش نفسها، رغم وحشيتها، فداعش ليست سوى عرضاً من أعراض التدخل الأمريكي وسطوة المشروع الوهابي التكفيري وسوء الإدارة والفساد، بل أن البعض يتخوف من أن يكون الوضع في البلاد أكثر سوءاً بعد الإطاحة بداعش، إذا لم يتم نزع فتيل الاقتتال الداخلي وتخطي التوترات الطائفية القاتلة.
نلحظ حالياً وجود تقاطع مصالح بين إيران والإدارة الأمريكية بالرغبة في وجود حكومة عراقية مستقرة يرأسها العبادي يمكنها مواصلة الحرب على “التنظيم”، وهناك أيضاً مساعٍ أمريكية ملتبسة “لتقنين” مطالب الأكراد الاستقلالية في هذا الظرف، إلا أن أطرافاً محلية وإقليمية كثيرة تنتقد إدماج المليشيات المتنوعة في عمليات القوات النظامية في الحرب القائمة، على اعتبار أن هذا الأمر غير قانوني، وتحمل الولايات المتحدة ودول الخليج بشكل خاص على فصائل الحشد الشعبي التي تقاتل إلى جانب الجيش، والتي تعتبرها الحكومة جزءاً من منظومتها الأمنية، في حين تتساهل هذه الأطراف مع فكرة إعطاء دوراً للأكراد وأبناء العشائر، ومن الواضح بأن إضفاء الطابع الرسمي على عمل المليشيات وحل النزاعات على أسس طائفية وهويات اثنية أو عشائرية، من شأنه أن يكون ضاراً على تماسك الدولة ووحدة نسيجها الداخلي على المدى البعيد.
يواجه العراق حجماً كبيراً من الأخطار والتحديات، ومستقبل خريطته السياسية لا ينفصل عن مستقبل المنطقة وموازين وحجم القوى الفاعلة فوق أراضيه ودورها في تحديد الجغرافية السياسية القادمة.
أمام هذه الصورة المتفجرة، لا بد بداية من تخفيف حدة الصراع الجاري بين مكونات المجتمع والذي تغذيه أطراف إقليمية متزمتة وطامعة ومعادية للتعددية، يجب أن تطرح الحكومة آلية توحيدية واضحة للوصول إلى مصالحة وطنية تُبنى على خطوات محسوبة للإصلاح السياسي والاجتماعي والأمني تبدأ بإضعاف شبكات المحسوبيات ومراكز القوى والنفوذ، وهذا يتطلب توحيد المجتمع العراقي خلف حكومته لاستعادة السيطرة على كل مناطق السيادة وترميم البنى التحتية وخاصة النفطية.
المطلوب رؤية جديدة للتحالفات الإقليمية وتخفيف مخاوف القوى الاجتماعية والسياسية بتنوعها، حتى تشكل مشاركتها دفعاً لتجديد الأطر الدستورية وتعزيز سيادة القانون وإعادة إحياء الهوية الوطنية الجامعة ومؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية دون تهميش أو محاباة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى