أخبار فلسطين

كلمه في ذكرى استشهاد مصطفى الزبري ( ابو علي مصطفى)/ د.احمد قطامش

دون مقدمات، إن المفتاح في فهم شخصية ودور أبو علي مصطفى أنه تمثل بعمق دور الفرد في التاريخ، فهو من ناحية الجوهر، استجابة لتطلعات الجماهير و قضاياها العادلة.

وفي غمرة الممارسة المتشعّبة تبلورت شخصيته ورؤيته، فهو براكسيس أسوة بالقادة الكبار. فلم يبدأ كبيرًا أو خبيرًا، إنما تفاعلت إرادته ووعيه مع الفعل المتصاعد، فكان فاعلية و تجسيدًا لمفردة  مركزية في المنظور الماركسي؛ فاعلية الفرد، فاعلية الجماعة الثورية، فاعلية الشعب… وإن لم يكن قد اطلع على المنظومة الفكرية للماركسية في البدايات، غير أنه انهمك في دراسات مثابرة لاحقًا.

وبتدرج تنامى دوره واتسع. وتناغمًا مع صيرورة الواقع والمهام تنامت صيرورته ومسيرته، فلم يتخلف عن الدور المناط به ولم يغتَر (إذ ليس ثمة ما هو أسخف من الرضا عن النفس) لينين.

وسواء انخراطه في العمل الحزبي ما قبل هزيمة حزيران 1967، وما صاحبه من مهام نوعية، ذلك أن القوميين العرب مبكرًا، وتحديدًا عام 1957 (راحت بعض الامتدادات في الضفة الفلسطينية تتدرب على السلاح وتخزين السلاح) أديب عساف، الأمر الذي تبلور أكثر مع ولادة التنظيم الفلسطيني في الحركة بعد زيارة الدكتور وديع حداد لقطاع غزه 1963 واتفاق الحكيم الدكتور جورج حبش مع الرئيس جمال عبد الناصر على تدريب كادرات من الحركة في قاعدة أنشاص العسكرية 1964. وتماشيًا مع ذلك قام أبو علي بعدة جولات استطلاعية سرية داخل أراضي 48 .

و شارك ابو علي في المؤتمر الأول للجبهة الذي انعقد في آب 1968، بينما كان الحكيم في السجن السوري، وانطلقت طاقاته وأهم مزاياه (أنتم تعرفون سر قوتي فأنا لا أظن بنفسي) دز ريجنسكي المرشح للمكتب الساسي للحزب البلشفي الذي استشهد في ردهات الكرملين، فيما كانت ساعات عمله اليومي تقترب من العشرين. وهذا كان حال الشهيد أبو علي الذي لم يبخل بوقته أو جهده، بخلفيته الفلاحية وتعليمه المحدود. فهو ليس من حملة شهادات الدكتوراة والاختصاص، ولكنه انغمس في تثقيف نفسه إضافة للثقافة الحزبية التي تلقاها (كلما ارتفع الموقع القيادي تطلب المزيد من الثقافة) وزير الدفاع الفيتنامي تشينه الذي روج أبو علي كتابه في بعض الأوساط. و(انتقل من مثقف ريفي إلى مثقف مديني) غرامشي، مثقف الكتلة التاريخية التقدمية، في ترجمة حية لكلمات لينين (إذا استأنسنا الخير في كادر قمنا بتدوير مهامه وتحويله لمحترف) فانتقل من العمل السري إلى العمل العلني، ومن المهام التنظيمية للمهام القتالية، ومن النشاط في أوساط الشعب إلى قائد للشعب، ومن النشاط الداخلي إلى النشاط الوطني… دون أن تضعف كلمات هوتشي منيه التي تشربها في عقله وروحه (الحزم يعني المزيد من الجهد والمزيد من الانجاز).

وعلى هدي مدرسة الدكتور جورج حبش الاستراتيجي بلا خدوش و صاحب الرؤية المتمايزة دون مساومة الوفي لكلمات ماركس (إياكم والتنازل النظري، إياكم والمساومة على المبادئ) قام الشهيد أبو علي بقراءة التناقضات، الأساس والرئيس والثانوي والمؤقت وجدليتها، ووسائل حلها، لكن دون التباس. فالهدف الوطني (فلسطين ديمقراطية دون تمييز ديني أو جنسي أو عرقي، والهدف القومي الدولة الواحدة الديموقراطية الاشتراكية).

لأنه من الحراس القدامى كان عليه اجتراح البطولة وقوة المثال، فهو من زمن السحر، زمن التأسيس، فتكلل بالبطولة وقوة المثال وبالشجاعة والجرأة (الجرأة أولًا، الجرأة أبدًا) ودانتون، جرأه ثمنها الدم و الروح .

صحيح أن هذا الطريق لم ينتصر في فلسطين ولكنه انتصر في لبنان ومن قبله في فيتنام.. ناهيكم أن العسكرية الاسرائيلية تتردد في اجتياح غزة كما تنشر الصحافة الاسرائيلية، أي بات لقطاع غزة المحاصر والمجوّع قوة ردع ما.

للوقوف في الصف الأمامي استحقاقات، وقد تبوأ موقعه في الصف الأمامي. وعلى امتداد العقود، وحيثما كان وفي أشد لحظات القصف في عمان أو الجنوب اللبناني كان على خط النار (فالرفيق الأفضل يكون حيث الظروف أكثر صعوبة) ماوتسي تونغ. وهناك من بث قلقًا عن وجود المقاومة في سوريا، فوقع في شرك كبير حين عاد للوطن (عدنا لنقاوم لا لنساوم) فالسلطات الاستعمارية لم تمهله طويلًا.

وفي سنوات الانتفاضة الثانية مع بداية الألفية الجديدة، تجاوز عدد الذين تعرضوا لاغتيال ممأسس؛ 510 ناشط وكادر وقيادي، وكان بين أهم القادة، وكأن التاريخ وضعه في المقعد الأمامي سواءً حيًا أو كهلًا، أما المداد فكان هذه المرة دمًا وروحًا.

كانت جنازته مهيبة. ومثلما كانت مسيرته ومصداقيته كانت جنازته، فقد احتشدت كل الألوان في لحظة رحيله.

للقادة الثوار يبين خصال ذهنية وأخلاقية وأيديولوجية تجعلهم يستشعرون أكثر من غيرهم ويتفاعلون أسرع من غيرهم ويفعلون أكثر من غيرهم. (الثوري حالة ثورية) لينين، وعندما تتفاقم الأزمات تتقدم شخصيات ملحمية يتوحد فيها (الإيمان الثوري وخطة العمل) كاسترو   ويلتحم فريق ثوري (أعطني دزينة من الثوريين أقلب روسيا رأسًا على عقب) لينين، وهم يتماهون في مشروعهم التحرري بل التحريري بلغة فرانز فانون، تُحركهم أحلام الشعب الكبرى (والعمل  المنمنم) لينين، ولكن في الاتجاه الصحيح (إذ ما فائدة الركض إن لم تكن على الطريق الصحيح) مثل ألماني. بيد أن المسيرة الفلسطينية جاءت (حافلة بالأخطاء والخطايا) الدكتور حبش، و كان لذلك أثمان باهظة على كل الصعد.

كانت الشروط الموضوعية بعد 48 و67، وما تعرض له الشعب الفلسطيني من تطهير عرقي واقتلاع في الحالتين، حافزًا لتجديد الخارطة للسياسة الفلسطينية والانطلاق، أما وقد أتت مرحلة أوسلو التي تستفز الأموات والأحياء، ولكنها خدّرت الناس أيضًا، فجاءت الاستجابة غير الاستجابة المنتظرة. (تأتي لحظات في التاريخ إما أن تنخرط فيها أو تبقى في معزل) إنجلز. فالذي استجاب أكثر من سواه هو الاسلام السياسي المقاوم، أما اليسار المقاوم فقد انكمش وتبدد تركيبه واستغرقته أزمة بنيوية لم يخرج منها لليوم.

غير أن الخانة التي شغلها اليسار القومي الذي يمثله الشهيد  أبو علي، كان لها حيز أصيل، ولم تنطفئ فيها الجدلية (لماذا حصل ذلك وما السبب الأساس وكيف يمكن تجاوز ذلك، وما الخطوة الأولى) عاصفة من الأفكار التي تكبحها مستويات فاشلة، وظروف مجافية وتحديات نظرية تستوجب القبض على التحولات (فالتعاسة في السياسة هي عدم تمثل المتغيرات) لينين.

وما يبشر أن التاريخ اختبر قوى اجتماعية ورؤى فكرية سياسية ولكنها لم تشق طريقًا للخلاص، علمًا أن سقوطها القيادي لا يُسقط دورها التاريخي، إذ لم ينفك لها دور، بما يُحرّض موضوعيًا لصعود قوى اجتماعية ورؤى فكرية جديدة، وهذا بدرجة أو أخرى ينسحب على الوطن العربي بمجمله.

إن النموذج الذي يمثله الشهيد ما برح يحافظ على راهنيته، فهو ليس ساموراي،  والشهيد إن لم يكن من الفريق المؤسس لحركه القوميين (د. حبش و د. وديع د .أحمد الخطيب الكويتي والجبوري العراقي وشبل الفلسطيني) فقد كان من الفاعلية والاستجابة بالقدر الذي جعله من الفريق المؤسس للشعبية وواكب الانتقال الأيديولوجي من الديمقراطية الثورية إلى الماركسية اللينينية في مضامينها التحررية نحو (التحرر الشامل للإنسان) ماركس.

كان الحكيم البوصلة (والشهداء وديع وأبو علي واليماني وكنفاني، كلهم  ساروا على الدرب وجسدوا الامتداد الأكثر وفاءً والتصاقًا. أما الامتداد الديالكتيكي  لكل هذه النماذج فلم يولد بعد. وهذه القبضة الديالكتيكية (علينا أن نكون ديالكتيكيين) كاسترو، هي برسم المستقبل. وتربتها القوى الصاعدة في المجتمع، التي تربط اللحظي بالمستقبلي، وتبرهن على موهبة واقتدار وتسترشد بكلمات الحيكم (لا ينبغي أن ينتهك التكتيك الاستراتيجية، ولا أن تنتهك السياسة الأيديولوجيا) في إطار مشروع عربي نهضوي يمهد لإزالة كل الاغترابات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى