نحو الجوهر… رحلة ومعاناة!!!
- العلوم بمختلف مشاربها لا توصل لنا حقائقها المختلفة وجوهر مظاهرها إلا من خلال البحث والتقصي في هذه المظاهر حتى نستطيع أن ننفذ لجوهرها.
«الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها». هو حديث نبوي، رغم تصنيفه لدى بعض العلماء بأنه حديث ضعيف. ولكن ما يهمنا في هذه المقالة ليس مناقشة ضعفه أو قوته بقدر ما يهمنا معناه. فهو يقترب في معناه من الاصطلاح اليوناني «الفلسفة» والتي تعني فيما تعني حب الحكمة أو صداقتها… فماذا تعني الحكمة ومن هم محبوها وأصدقاؤها؟
اختلف العلماء على تصنيف مفهوم الحكمة وتعريفه. فمنهم من قال بأنها تعني امتلاك ناصية العلم، ومنهم من قال تجدها في الفقه، ومنهم من قال بأنها تعني حسن التصرف في المواقف المحرجة…الخ من التفسيرات المختلفة والتي لا أعتقد بأنها تنصف الحكمة في معناها الحقيقي وإن كانت تمس في التعريف أحد جوانبها.
لكن من المؤكد أن الحكمة وبمعناها الشمولي تعني الحقيقة… نعم الحقيقة التي لا يمكن الوصول إليها إلا إذا أدركنا جوهر الأشياء. فجوهر الأشياء هو أصل كل علم من العلوم سواء كان علما عاما أو علما حياتيا اجتماعيا اقتصاديا… أو حتى علم من العلوم النفسية واللغوية والروحانية.
فالعلوم بمختلف مشاربها لا توصل لنا حقائقها المختلفة وجوهر مظاهرها إلا من خلال البحث والتقصي في هذه المظاهر حتى نستطيع أن ننفذ لجوهرها. فالأشياء والعمليات والظواهر الطبيعية والحياتية والاجتماعية تبدو لنا من خلال مظاهرها المختلفة والتي يكون الجوهر قد تجسد من خلال بعض جوانبه فيها. فالمظهر والجوهر ليسا سواء، ولو تطابق الجوهر مع المظاهر التي نراها ونشعر بها «لأصبح العلم شيئا نافلا» على رأي ماركس، ولما قابلنا علماء أو مفكرين أو فلاسفة باحثين عن الجوهر من خلال ما يتجسد منه في المظاهر المختلفة للشيء أو الظاهرة المعينة.
إن الجوهر يعني الجانب الرئيسي الداخلي الذي يحدد طبيعة الشيء وتنبع منه كل جوانبه الأخرى وسماته. أي بمعنى آخر هو حقيقة الشيء أو الظاهرة. فجوهر المادة هو في كونها واقعا موضوعيا خارج الوعي ومنعكسة عليه، وجوهر الكائن الحي هو عملية الأيض (الإدخال والإخراج) الملازمة له، وجوهر الاستغلال الرأسمالي هو في الاستيلاء على القيمة الزائدة التي يصنعها العامل، وجوهر الإمبريالية هو الاحتكار…الخ.
وحتى يصبح الجوهر مدركا لا بد من البحث والاستقصاء الجدي. واكتشافنا لجوهر وحقيقة ما نعرفه من الأشياء قد استنفذ من الإنسانية جمعاء الجهد والعناء واحتاج لاكتشافه مراحل تاريخية على امتداد الوجود الإنساني على الأرض… وكل هذا يبرر السؤال الذي يطرح: لماذا كل هذا العناء في البحث عن الجوهر؟ وكيف نجده؟؟.
لا يمكن للإنسانية أن تتطور وأن تبني دون معرفة أكيدة وجدية بحقائق وقوانين واتجاهات عملية التطور والبناء، وذلك لكون هذه الحقائق تشكل الأساس الموضوعي الذي بدونه لا يمكن مواصلة البناء والتطور… أي بدون هذه الحقائق كنا سنبقى نعيش كما الإنسان الأول… كما عصر الحجارة والعصي والكهوف والشجر، ننتظر ما يخبئه القدر… كنا سنعيش قوت يومنا إن وجد، ولا نجد ما يحمينا من فواجع الزمن. إن رحلة البحث عن الحقيقة والجوهر هي من أوصلتنا إلى بلوغه من تقدم هائل وأسطوري.
لكن رغم كل هذا التطور فلا نزال في أول الطريق، فلم ندرك بعد حقيقة وجوهر كل ما يحيط بنا… عرفنا بعض الحقائق ولكننا لا زلنا نجهل اغلبها… لا زلنا أطفالا نحبو في مدرسة الحياة الغنية والمتجددة.
وطريق الوصول إلى الحقيقة هو طريق مليء بالعناء والمتاعب والصراعات… نعم الصراعات. فكثيرون هم من يضعون العصي في الدواليب لئلا تكتشف الحقائق، وكثيرون يستخدمون كل أسلحتهم المادية والفكرية لقلب الحقائق وإخفاء جوهر وحقيقة الأشياء. إن مصالح هؤلاء لا تتوافق وكشف الحقائق وتبيان جوهر الأشياء والظواهر، حيث إن الحقائق تفضحهم وتكشف مدى فسادهم وإجرامهم بحق الآخرين، وتعري ما يقومون به وتنزع ورقة التوت التي تغطي عوراتهم… وليس أدل على هذا الكلام ملموسية قدر ما يحيط بنا من ملفات فساد يجاهد الكثيرون مع أعوان ومأجورين لهم من اجل دفنها وعدم إظهارها والتعمية عليها، حتى يحتفظ هؤلاء بما نهبوه لأنفسهم وحتى يستمر النهب والسرقة والاستغلال إلى ما لا نهاية.
إن المدافعين عن الحقيقة والباحثين بجدية لمعرفة جوهر الأشياء والظواهر هم فقط أولئك الذين لهم مصلحة حقيقية في تغيير الواقع نحو آفاق تقدمية رحبة تضع مصلحة الإنسانية فوق كل اعتبار. وان هؤلاء المدافعين عن الحقيقة والساعين لإظهارها وتبيانها، لا بد لهم من العمل الجاد الجسدي والفكري، وخوض الصراعات الضرورية، وتحمل جميع المتاعب من أجل تحقيق المصلحة العليا لهم وللإنسانية جمعاء. وليكن شعارنا معا هو الشعار الذي رفعه الرفيق الشهيد غسان كنفاني عندما أسس مجلة الهدف وهو… «الحقيقة …كل الحقيقة للجماهير».