معركة القدس، معركة الوعي
كتبه: مي عابدين
في البدء كانت ال”لا” خجولة، متواضعة، وليدة لحظتها، رافضة العبور بشروط الاحتلال وعبر البوابات الالكترونية إلى حيث الحيز الأقدس والاقرب لقلوب الفلسطينيين عامة والمقدسيين خاصة.
ترددت ال “لا” في أزقة البلدة القديمة ليعلو صداها من حناجر الكل المقدسي والفلسطيني رافضة المزيد من الذل والخنوع محرجة بذلك كل من استسلم وخضع على مدار سنوات الاحتلال الطويلة ليجد نفسه مجبرا على الخضوع لصوت الشارع والانضمام له وتوحيد الصف.
هل يكتفي المقدسيون بإزالة البوابات الإلكترونية ومظاهر التفتيش على مداخل المسجد الأقصى؟
في ظل غياب أية قيادة وطنية وسياسية اضحت المرجعيات الدينية في الأيام الأولى هي الناطق بلسان حال الشارع إلى حد ما. فقد أجبر الشباب هذه المرجعيات المتمثلة بوزارتي الاوقاف الاسلامية الأردنية والفلسطينية، رفض الدخول إلى المسجد الأقصى حسب إملاءات الاحتلال. وبالرغم من تبنيها للموقف الشعبي إلا أن خطاب هذه المرجعيات بقي باهتا وضيقا بمطالبة الاحتلال بإعادة الاوضاع في محيط المسجد الأقصى إلى ما كانت عليه قبل العملية الفدائية التي نفذها فدائيو ام الفحم في 14 تموز. ومحصورا في إزالة البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة فقط دون التطرق إلى التفتيش المهين والعشوائي الذي يحصل يوميا على مداخل الحرم القدسي الشريف أو المنع من الدخول لبعض الأشخاص أو حتى الاعتراض على نظام احتجاز الهويات الشخصية لزائري المسجد على المداخل من قبل شرطة الاحتلال كإجراء احترازي لمنع أية مظاهر للاحتجاج ضد زيارات المستوطنين التي تضاعفت في الفترة الأخيرة.
إذا ما قمنا بتفكيك الخلفيات السياسية لهذه المرجعيات الدينية لأدركنا بأنه من الاستحالة عليها إعلاء سقف مطالبها وصوتها أمام الاحتلال. فنحن أمام مجموعتين من العمائم: الأولى تمثل النظام الأردني صاحب “الوصاية” – وليس السيادة – على الحرم القدسي الشريف وعليه هي خاضعة لسياسيات الملك وأوامره المباشرة، ومجموعة العمائم الثانية التي تمثل توجهات وإرادة السلطة الفلسطينية التي لا تحظى بأية سيطرة أو وصاية أو سيادة على الحرم القدسي ومدينة القدس. فمن سكن القدس وجاور المسجد الأقصى يدرك تماما بأن هذه العمائم قد خالفت. ولأول مرة في تاريخها تجد لنفسها موطئ قدم وقبولا في الشارع المقدسي وخاصة بين شباب المدينة المقدسة. فبين رغبتها بالإبقاء على مكاسبها الشعبية وبين عدم قدرتها على مخالفة رأيي سلطاتها وجدت الجماعة نفسها بين مطرقة الجماهير الغاضبة وسندان أروقة الحكم فعمدت إلى سياسة حمل العصى من المنتصف للمحافظة على توازن دبلوماسي يقيها سخط الشارع والقيادة.
أدركت هذه المرجعيات والقوى مدى قوة وثبات الشارع وعزيمته الرافضة للتراجع عن حقوقه والتفافه حول نفسه وعدم السماح لأية جهة بإخراجه عن مساره. فما كان منها إلا أن انضمت إليه وأعلنت مطالبه الأولية دون الاضافة عليها، بل وعملت من خلال بياناتها اليومية إلى تحديد وتكرار تحديد هذه المطالب بإشارة خفية إلى الالتزام بها فقط وليس بغيرها. وعبثا حاولت بعض الأصوات الوطنية جاهدة ايصال رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى هذه المرجعيات بضرورة إعلاء سقف مطالبها لرفض كافة انواع الانتهاكات ضد المقدسيين وتحذير المرجعيات الدينية من مغبة الانزلاق في فخ أجهزة الاحتلال. فكان اعلان الانتصار مبكرا ومطالبا الجماهير بالتجمع لدخول الحرم القدسي على الرغم من تصريحات الاحتلال بالابقاء على خطته في تطوير وتنفيذ مشروعه “الامني” في محيط المسجد الأقصى في مدة أقصاها 6 أشهر.
وقد كان هذا جليا خلال أحداث يوم الخميس 27 تموز. فالمرجعيات أصرت على دخول الحرم مع غياب ضمانات من الاحتلال بالتراجع عن خطته واكتفت بإزالة الاحتلال للبوابات الالكترونية والكاميرات الظاهرة (ما زال هناك عدد من كاميرات المراقبة التي تم وضعها داخل منطقة الحرم بعد عملية الرابع عشر من تموز ولم يتم التطرق اليها) وعمدت إلى تعجيل قرار الدخول وتحويله من يوم الجمعة إلى يوم الخميس بهدف تجنب مواجهات مع الاحتلال مع صلاة يوم الجمعة التي تعد أكثر الأيام استقطابا للمصلين.
من أين استمدت هذه المرجعيات الدينية ثباتها على موقفها؟
من المستحيل ومن السذاجة الحديث عن مصير القدس او المسجد الأقصى بمعزل عن القضية الفلسطينية. فمعضلتنا الأساسية بغياب قيادة حقيقية تعكس نبض الشارع ، ومعارضة وطنية ضعيفة ما زالت تتخبط داخل مؤسسات وطنية اضحت بيد السلطة الواحدة جعلت من القضية الواحدة قضايا متعددة غير مترابطة. فاصبح للقدس قضية ومدافعون عنها متمثلون بشخوص سكانها، وللاسرى قضية مناصريها اهل الاسرى وللمخيم واللاجئين قضية منسية ان تم التعامل معها فهو من منطق العبء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
ومع هذه الحالة تولد لدى المقدسيين شعوربالمرارة والفقد وعدم الثقة بالاحزاب الوطنية. فلأول مرة ومنذ سنوات من انعدام أية مساندة ودعم لهم في مواجهة انتهاكات الاحتلال المتكررة من قتل واعتقال وإبعاد وهدم منازل ومصادرة أراض، ظهرت القيادة الدينية بقوة محتضنة هذا الغضب متفردة أمام الجموع مع غياب واضح للقوى الوطنية والسياسية عن المشهد وعدم مشاركتها بأي من الاجتماعات الأخيرة الخاصة بوضع المسجد الأقصى والتي إن شاركت لكانت قادرة على استعادة ثقة الجماهير بها وتباعا المحافظة على استمرارية مشهد الاعتصامات من خلال تعميم حالة الرفض لتشمل رفض كافة اشكال سيادة الاحتلال على القدس وليس على المسجد الأقصى فقط.
بلا شك بأن منزلة المسجد الأقصى الدينية كانت السبب الرئيسي لانتفاض المقدسيين وتوحدهم لمنع أي مساس بالأقصى بحيث كشف ذلك عن ارادة شعبية حقيقية قادرة على ان تكون فاعلة في حال توفرت لها الامكانيات اللازمة والدعم المناسب والحاضنة الشعبية والرسمية.
قد نختلف فيما بيننا على التسمية، بعضنا قد يقول “نصر” وآخر يقول “ليس نصرا بعد” ولكن الاكيد هو القدرة على المراهنة على وجود قوة كامنة قادرة على ان تتحول لحراك شعبي يعتمد عليه في مواجهة الاحتلال الصهيوني. فها هي البوصلة تولد من جديد باحثة عن هدف بعيد الأمد وهوية وطنية جامعة واعية لاسباب الضعف، نائية بذاتها عن كل أسباب الخلاف والانقسام، حذرة في تعاملها مع الانتصارات الوهمية ومفوتة الفرصة على كل من يحاول تجيير جهودها ودم شهدائها لمكاسب شخصية وحزبية.