فكر

محاولة سيكولوجية لفهم العنف في المجتمع المتخلف / نصري الطرزي

انقضى ما يقارب العقود الأربعة على نشر الدكتور مصطفى حجازي كتابه “التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور” لكن راهنيته في ازدياد. ومع أنه من الصعب أن يلخص كتاب كهذا، إلا أنني أعدت قراءة فصل “العنف” مؤخرًا وأذهلني لكثرة ما فيه من إشارات إلى الواقع العربي الحالي الذي يتفشى فيه العنف والقتل. سأعرض أهم أفكار ذلك الفصل، وسأترك للقارئ إيجاد الربط بين ما يرد في الكتاب وبين الواقع.

يقول الدكتور حجازي إن الإنسان المقهور يحاول رد اعتباره الذاتي وتحقيق كرامته عن طريق عدة آليات دفاعية، لكنها لا تفلح في التخفيف من توتره النفسي الذي يتراكم باستمرار، وإن هذا التوتر لا يفرغ إلا بالعنف.  فعن طريق ممارسة العنف يتجنب المقهور إدانة ذاته الفاشلة من خلال توجيه عدوانيته إلى الخارج.

تأخذ العدوانية مظاهر متعددة؛ قد تكون خفية مستترة وقد تنفجر بشكل صريح مفاجئ في حدته.  فمن جهة قد يرتد العنف على الذات المقهورة؛ فيدين المتخلف نفسه، ويبرر واقعه السيء بتبريرات تحط من شأنه وترفع من قدر المستبد، لكن الحط من الذات لا يمكن أن يستمر طويلاً وقد يترجم في النهاية إلى مرض جسدي ذو منشأ نفسي.  ومن جهة أخرى قد تتجه العدوانية إلى الخارج عن متخذة عدة مظاهر، منها الكسل وافتقاد المبادرة والافتقار إلى الإبداع، كما يشيع العدوان اللفظي ضد السلطة عن طريق النكات والتشنيع. لكنها وفي شكل أكثر صراحة قد تتخذ ظاهرة تخريب الممتلكات العامة حتى إن كانت الفائدة منها تعود على المقهور ذاته؛ فهذه الممتلكات رمز للسلطة.  وقد يتخذ العنف شكل الخداع والتضليل والاحتيال، أي شكل الاعتداء على القانون، فالضوابط الخلقية في مجتمع القهر غير فعالة، وليس هناك مراعاة متبادلة بين الناس، هناك فقط الخوف من السلطة وبطشها. وقد يحدث أن تهزل السلطة لسبب أو لآخر، وبالتالي تزول الملاحقة، وفي هذه الحالة تنفجر العدوانية الكامنة وتستباح ممتلكات الآخرين وحياتهم دون أدنى مراعاة لحقوق المواطنة. لا يجد المقهور وازعًا داخليًا لأنه لا يجد في مسلكه ما يختلف عن مسلكية القلة المستبدة، وها قد حانت له الفرصة كي يعوض ما أصابه من حيف مزمن.

يعيش الإنسان المقهور توترًا وجوديًا عامًا يجعله في حالة تعبئة دائمة استعدادًا للصراع. فتجده لا يقوى على الحوار المنطقي والعقلاني بل يتدهور حواره إلى المهاترة والسباب بسرعة، وقد يتحول الأمر إلى العنف المباشر نتيجة أتفه الاختلافات. إن العنف الذي يسود بعض المجتمعات ليس خاصية نفسية للشعوب المتخلفة، بل هو وليد وضعهم المأزقي الذي يضع الآخر في محل الخصم حيث لا مجال للحصول على الحق من خلال الحوار وإنما من خلال المعركة. لذلك ترى في هذه المجتمعات تضخيمًا لأهمية الذكورة والرجولة وينتشر استعراض القوة حتى لو لم تستند إلى أسس فعلية.

إذا انتشر التوتر الوجودي في مجتمع ما فإنه يهدد بتفكيكه، لذلك فإن ديناميكية المجتمع تتحرك لإيجاد حل للعدوانية المتراكمة ولحفظ حد أدنى من التماسك، ويتخذ هذا التحرك شكل توجيه العدوانية إلى جماعات خارجية من خلال التعصب العرقي أو الطائفي مع ما يرافقه من ميول فاشية. وفي كثير من الأحيان تشجع السلطات هذا التوجه لأنه يحول العنف بعيدًا عنها ليستمر استبدادها واستئثارها بمقدرات المجتمع، ويلبي هذا تطلع المقهورين وتعطشهم لمظاهر القوة، لذلك تراهم ينقادون وراء الزعيم الفاشي الذي يغذي فيهم مشاعر العظمة. تشعر الجماعة في هذه الحالة بتدفق الحياة في شرايينها وتستبدل العجز بأحاسيس الجبروت، ولا تعود ترى إلا نفسها ولا تحس بقيمة خارجها. وفي هذه الحالة يتركز الحب على أعضاء الجماعة وداخلها، ويصب العنف والعدوانية على الخارج، فتلغى كل التناقضات الداخلية ويتعلق الجميع بالزعيم، ويصبح الشر المطلق هو الجماعة الغريبة (التي قد تكون من أبناء الوطن ذاته)، فتنهار علاقة المواطنة ويفتح الباب أمام المجازر التي يصفها مرتكبوها بأنها واجب مشروع للدفاع عن النفس. لكن الوصول إلى هذه الحالة يتم عبر عدة مراحل، أولها هو فك الارتباط العاطفي بالآخر من خلال انهيار روابط الألفة والمحبة والتعاطف والمواطنة والمشاركة في المصير ليحل محلها مشاعر الغربة والاضطهاد والتقوقع على الذات والانكفاء نحو الجماعة وعدم القدرة على اعتبار مسألة إلا من خلال وجهة النظر الذاتية. يرافق فك الارتباط العاطفي برود وغربة يفصلان بين المعتدي وضحيته، وأساس فك الارتباط هو نفي إنسانية الضحية. وأخيرا تتم شرعنة القتل من خلال خطاب المظلومية وبناء الأساطير التي تجعل من الآخر تجسيدًا للشر والخيانة، وتنحدر الضحية لا إلى مستوى الشيء فحسب بل إلى مستوى الشيء الذي ينبغي تحطيمه.

الإنسان المقهور معرض للوقوع في التعصب والانجراف في موجات الفاشية ويشكل وقودها مع أن مصلحته هي بالضبط في مقاومتها والتصدي لها. العنف الفاشي والمتعصب لا يحمل سوى وهم الخلاص. إنه حل سحري وانتحاري في آن معًا.

باستثناء القمع الخارجي والخوف، فإن لا رادع لعدوانية الإنسان المتخلف إلا نزوة الحياة؛ إذ يرى بعض علماء النفس إن هناك نزوتان تحكمان الكائن: نزوة الحياة والحب ونزعة الموت والدمار، حيث تتدخل نزوة الحب والحياة للجم نزوة الموت. وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر بين علماء النفس، فإن هناك رأيًا وجيهًا يقول إن الفعل التدميري هو ردة فعل الكائن على رفض إشباع حاجة حيوية (نزوة الحب) أو على كبتها وإحباطها. ومن الواضح أن نزوة الحياة لا تفلت من الاضطهاد في المجتمع المتخلف حيث تتحالف السلطة السياسية مع السلطة الدينية في تحريم الحب وفي إفقاد الفرد القدرة  على إشباع رغباته ونزوة الحياة لديه عن طريق التابوهات والمحظورات، فلا تتمكن نزوة الحياة من ضبط نزوة الموت وتنفجر العدوانية من دون ضابط.

يشير الدكتور حجازي إلى أن بديل العنف هو توظيف الطاقات في عمل تغييري على مستوى المجتمع ككل، لكني أضيف أن هذا العمل لا بد وأن يقترن بإعادة الاعتبار للمشاعر الراقية ونزوة الحياة والحب، فمنشأ العنف ليس فقط الاستبداد السياسي أو انغلاق الأفق الاقتصادي، إن أحد جذوره هو الإحباط الجنسي والكبت، وإلا فكيف نفسر استعداد الآلاف للموت في سبيل لقاء الحوريات؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى