فكر

مئوية الثورة البلشفية: عن الأممية والقومية والوطنية

إحياء هذه الذكرى يجب أن يتناول محطات الانتصار والصعود ، كما التراجع والسقوط، وانتهاء التجربة المحققة للإشتراكية فيما كان يعرف بمنظومة الدول الإشتراكية والاتحاد السوفياتي، وقد انعكست هذه التجربة في انتصارها وصعودها كما في تراجعها وسقوطها على كافة حركات التحرر في العالم وقاراته الخمس.

سأنطلق من بعض الأفكار التي تندرج تحت هذا العنوان والمتمثلة بنداء لينين إلى مؤتمر شعوب الشرق المنعقد في باكو عام 1920 وتطوير شعار “يا عمال العالم اتحدوا” إلى “يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا” ، والتي برأيي كانت تعكس إدراكا من الثورة البلشفية وقائدها العظيم لينين لخصوصية التطور الاجتماعي والاقتصادي لهذه الشعوب، والذي كان يجب أن يُدرَكْ ليؤخذ بعين الاعتبار من أجل دفعها لتنخرط في المعركة الشاملة في مواجهة الإمبريالية والرأسمالية من أجل هزيمتها.

باعتقادي أن الحركة الشيوعية العالمية وضمن عنوان المراجعات والبعد النقدي لتناول تجربتها، لم تستطع أن تقدم أطروحة متماسكة من الناحية النظرية وتحملها بعد ذلك إلى حيز التطبيق فيما يتعلق بالمواءمة والتوفيق والتكامل ما بين الأممية والقومية والوطنية ، والتجربة التاريخية تقول بأن ما هو مستمر حتى الآن من التجارب الشيوعية والإشتراكية ، والأنظمة التي استمرت حاملة لهذا المشروع حتى الآن ، هي الأنظمة التي استطاعت أن توائم بين هذه العناصر؛ بين أن تكون أممية وقومية ووطنية، وأن تفكك وتتجاوز أي تناقض بين هذه الأبعاد، وهنا أذكر تجربة كوبا.

فعندما انتصرت الثورة الكوبية لم يكن محركها الحركة الشيوعية الكوبية أو الحزب الشيوعي الكوبي (السابق)، بالرغم من أنه وبعد انتصار الثورة فإن الحزب الشيوعي الكوبي السابق (كان تحت مسمى الحزب الاشتراكي الشعبي) انخرط في إطارٍ جديد وحد قوى الثورة الكوبية : “حركة 26 تموز” التي كان يتزعمها فيدل كاسترو، و”الحزب الإشتراكي الشعبي” بقيادة بلاس روكا، و”التوجيه الثوري” الذي كان يقوده هوسيه أنتونيو إتشافاريا، كلها توحدت تحت مسمى “الحزب الموحد للثورة الإشتراكية في كوبا” ، وتوجت هذه المرحلة بإعادة تأسيس الحزب الشيوعي الكوبي (الحالي) في الثالث من أكتوبرلعام 1965 .

عندما ننظر إلى ما حدث في أمريكا اللاتينية وتحديداً تجربة تشافيز “والثورة البوليفارية” في فنزويلا والتي استطاعت الجمع بشكل خلاق ما بين المشروع الإشتراكي وخصوصية المجتمع الفنزويلي واللاتيني وإرث سيمون بوليفار ، وكذلك الأمر عندما نتحدث عن تجربة بوليفيا وإيفو موراليس ، الذي لم يأتي من الحركة الشيوعية البوليفية ، لكنه تبنى نموذجا اشتراكيا حقيقياً قبل وبعد الوصول إلى السلطة التي أعادت الإعتبار لدور الهنود ، السكان الأصليين ، للمشاركة في السلطة بخصوصياتهم وثقافتهم  وإرثهم.

كما هو الحديث عن اشتراكية القرن الحادي والعشرين ، فبالرغم من أن هذا الحديث لم يصل إلى مستوى البلورة النظرية بكافة تفاصيلها ، لأن التفاصيل والخصوصيات في هذه البلدان تفرض نفسها وهي تقف في خلفية هذه الأطروحة ، ونضوجها يستوجب مرحلة من الزمن للوصول إلى صيغة متماسكة تستجيب لأسئلة الحاضر والمستقبل ، وتتفادي تكرار أخطاء وخطايا التجارب التي انهارت سابقاً ، وهي أحد الدروس التي يجب أن تتعلم منها الحركة الشيوعية وكافة القوى اليسارية والتقدمية التي تتبنى الفكر الإشتراكي.

لو نظرنا كذلك إلى نموذج تشي غيفارا الذي كان من الأوائل في نقده للبيروقراطية في الإتحاد السوفياتي في الستينات من القرن الماضي وهذا النقد موثق في كتاب “التفكير الإقتصادي عند تشي” ، وعندما نتحدث اليوم عن فشل التجربة السوفياتية والمنظومة الإشتراكية ، فإن أحد أسباب وأبعاد الفشل يكمن في النموذج البيروقراطي في التجربة السوفياتية ونسخه في كافة بلدان المنظومة الاشتراكية.

عند الحديث عن عملية المراجعة النقدية ففي عالمنا العربي هناك ثلاثة نماذج بحاجة لدراسة ، لأننا إن لم نؤصل التجربة ونستفيد من دروسها وعبرها لن نستطيع أن نعيد بناء الحركة الإشتراكية العربية. وبرأيي فإن دراسة التجربة السوفياتية لن تفيدنا بقدر دراسة تجربة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوداني والحزب الإشتراكي اليمني، وهي أحزاب إما وصلت للسلطة أو اقتربت من ذلك ، وفي مرحلة من المراحل كانت تقرر في السياسات كما حصل في العراق. وهناك أحزاب شيوعية عربية عريقة أيضاً وصلت إلى تحقيق نفوذ جماهيري واسع ثم ما لبثت أن تراجعت.

لذلك أعتقد أننا يجب أن نعيد دراسة تجارب هذه الأحزاب وغيرها من القوى الاشتراكية واليسارية العربية، لأن إعادة دراستها بشكل نقدي هو ما يفيدنا في السعي لإعادة بناء الحركة الشيوعية والإشتراكية واليسارية العربية، كما يجب علينا التخلص من وطأة النموذج السابق الذي لم يستطع أن يدرك خصوصيات الشعوب والمجتمعات (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية)، وكلنا يذكر أحد العناوين الذي ما زال مثاراً للجدل وهو موضوع الموقف من “قرار التقسيم” ، فنحن ضد قرار التقسيم تاريخياً ، وبرغم احترامنالوجهات النظر الأخرى ، إلا أننا نعتبر الموافقة على قرار التقسيم بمثابة الخطيئة التاريخية.

في النهاية أؤكد على تحديات الوعي وتجديده وتطويره والربط بينه وبين مسألة الهوية التي يجب أن تكون متأصلة في الواقع ، فإن لم تكن محاولة إعادة البناء متأصلة وجذورها مغروسة في واقعنا ، فستكون محاولتنا لا تتجاوز السعي لبناء تجربة غريبة عن الواقع ولا تمتلك مقومات النهوض والاستمرار.

مداخلة تم تقديمها خلال الدائرة المستديرة التي أقامها الحزب الشيوعي الأردني ضمن فعالية إحياء مئوية ثورة أكتوبر الإشتراكية حول “علاقة ثورة أكتوبر وحركات التحرر الوطني”

كتبه:د.عصام الخواجا

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى