كورونا.. ما بين دولة الادارة ودولة الرعاية
نحتفل كما يحتفل العالم كله بيوم العمال العالمي. وقد يكون لاحتفال هذا العام ذو صبغة خاصة وخصوصية لم تكن لتظهر لولا هذا الوباء الذي اكتسح كل بقاع الأرض. وتتمثل هذه الخصوصية في الحديث المتواتر الذي يردده المراقبون من «أن هذا الوباء يشكل منعطفا هاما بل قد يكون فاتحة لمرحلة تاريخية من مراحل التطور البشري»، واعتادوا بذلك أن يرددوا «إن ما بعد كورونا ليس كما قبله».
غير أننا في هذه المقالة لن نناقش طبيعة «عالم كورونا» الجديد ولا جوهرة، ولا حتى معالم تشكله لان كل ذلك لا يتأتى بالنبوءات وقراءة الودع بل سيكون حصيلة صراع اقتصادي اجتماعي مرير، يحسن مواقع «البعض» على حساب البعض»الآخر». لكننا سنتناول هنا بعض انعكاسات أزمة كورونا على مفاعيل الصراع على الصعيد المحلي الأردني كون ذلك يمس مباشرة الظروف الحياتية الخاصة للطبقة العاملة والطبقات والشرائح الشعبية الكادحة والتي تأثرت مباشرة من مسائل الغلق ومنع التجوال وأوامر الدفاع المتلاحقة بعد فرض هذا القانون.
لقد كان لفيروس كورونا في هذا البلد تأثير واضح سياسي واقتصادي واجتماعي، وقد عدل من مفاهيم قديمة وافرز مفاهيم جديدة عكست نفسها على الكثير من مظاهر الفكر، وأثار هذا الفيروس العديد من التساؤلات حول طبيعة ومظاهر ومآلات الصراع في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وفي هذه المقالة سنحاول طرح العديد من التساؤلات وإثارة العديد من المسائل التي غدت تطرح نفسها بإلحاح.
لقد أفرزت كورونا وافرز معها الإغلاق الكامل وقفا لكافة المنشآت الاقتصادية أدى إلى تعطل عمالي شبه كامل، مسهم بلقمة عيشهم. وان كان أمر الدفاع رقم (6) قد غطى بعضا من المطالب العمالية في ظل التعطل ألقسري إلا انه اغفل قطاعات واسعة من العمال وخاصة عمال المياومة. كما أن ما تناوله أمر الدفاع هذا من تعليمات لتغطية الحاجات الحقيقية لمختلف شرائح الطبقة العاملة والموظفين والمهنيين لم يكن منصفا. إن هذا الوضع الذي افرزه فيروس كورونا وتعليمات الدفاع المرافقة على أوضاع الطبقة العاملة والموظفين والمهنيين سيفتح المجال مستقبلا للنضال العمالي من اجل إقرار تشريعات جديدة تحمي مختلف قطاعات الطبقة العاملة من العوز والفقر وقلة الحيلة في أي ظرف مشابه.
لقد أثبتت الظروف المرافقة لفيروس كورونا أهمية مؤسسة الضمان الاجتماعي كمؤسسة وظيفية خدمية اجتماعية، تغطي ظروف التعطل ألقسري لدى المسجلين لديها. ولكن سيكون مجال الصراع والنضال ما بعد كورونا حول تعديل تشريعات هذه المؤسسة باتجاه توسيع وتحسين خدماتها، والحفاظ على أموالها من الفساد والهدر والتبذير، وتنويع مصادر دخلها، وتوسيع مظلتها لتشمل مختلف القطاعات العمالية، وتنمية أموالها، وتقليص الفوارق للرواتب التقاعدية للمستفيدين منها.
-لقد اختفى خلال أزمة كورونا «كما هي العادة» صوت النقابات العمالية التي كان مطلوبا منها الإشارة على الأقل إلى الحقوق العمالية المهدورة في ظل التعطل ألقسري… ولم نسمع خلال الفترة إلا «صوت العمال» وهو صوت «اللجنة الوطنية للدفاع عن عمال الأردن» التي هب الاتحاد العام لعمال الأردن سبا وشتما عليها عندما أعلنت عن نفسها خلال مؤتمر صحفي قبل أزمة كورونا… لقد كان لهذه اللجنة «صوت العامل» تأثير واضح وصدى مسموع لبياناتها خاصة المتعلقة في الدفاع عن حقوق عمال المياومة. أما بقية النقابات المهنية فلم نسمع بشكل جدي إلا من نقابة المعلمين الأردنيين التي وقفت وتقف ضد الاقتطاعات من رواتب موظفيها.
لقد أشرت أزمة كورونا إلى قدرات متقدمة لدى الجهاز الصحي لدينا. ولكن هذا الجهاز لم يكن مستعدا لمواجهة أزمة صحية عامة مثل أزمة كورونا وخاصة في بداياتها، فقد افتقر إلى الأماكن مما اضطرهم لاستضافة الحالات في الفنادق التي لم تكن أصلا مجهزة كأماكن حجز للمصابين والمحجور عليهم… وافتقر الجهاز الصحي أيضا إلى الكثير من المواد والاستعدادات اللوجستية الضرورية لمتابعة الحالات ، ليس على مستوى المراكز فقط بل أيضا على مستوى جماهيري، فاختفت الكمامات وأدوات التعقيم، وارتفعت أسعار ما وجد منها إلى أسعار فلكية.
أما التعليم فلا اعتقد بأننا قد نجحنا في الاستعاضة عن التعليم الصفي المباشر بالتعليم الالكتروني غير المباشر. فوسائل الاتصال غير متوفرة وكذلك الأجهزة لدى نسبة كبيرة من الطلبة، إضافة إلى أن الأهالي «الأمهات والآباء» لم يستطيعوا أن يطرحوا أنفسهم كبدائل عن المعلمين والمعلمات، ولا أن يوفروا في المنازل أجواء دراسية تشبه الحد الأدنى من الأجواء المدرسية، أو حتى أن يكون لديهم الوسائل التعليمية اللازمة التي تتوفر عادة في المدارس.
لقد كشفت أزمة كورونا عن عمق الأزمة التي يعاني منها قطاعي الصناعة والزراعة بل وحتى القطاع التجاري… كما كشفت عن مجمل معضلة التشوه التي يعاني منها الاقتصاد الأردني. فهذا الاقتصاد الذي يعتمد على الريع والخدمات، وأرهقته المديونية العالية بأرقامها الفلكية، ونخرته السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة… سياسات التبعية والاستدانة والجباية وبيع القطاع العام… سياسات الانفتاح وعدم حماية الصناعة المحلية وتنميتها، وعدم دعم القطاع الزراعي وتنميته… تلك السياسات التي طالما اختبأ في ظلالها «نخبة محترمة» من الفاسدين والمفسدين الذين نهبوا أموال الدولة وأهدروا مواردها… إن ما يطرحه فيروس كورونا الآن هو تغيير لنهج سياسي واقتصادي كان قد أثر على أن نتصدى لجائحة كورونا على الشكل الأمثل.
مع كورونا، ومع تأثيراته المؤلمة ستزداد المعاناة الاجتماعية، سيزداد الفقر، ستزداد البطالة، ستتأثر الصحة والتعليم، ستتفاقم الأزمة الاقتصادية، وستكون لها تداعياتها السياسية. نحن بحاجة فعلا إلى تغيير النهج السياسي والاقتصادي القائم وتبني نهج يحول الدولة إلى دولة راعية، ترعى المصالح الحقيقية لمختلف الشرائح الشعبية، بعيدا عن التبعية والاستدانة، وان تقوم بتوسيع إطار الحريات السياسية، وإزالة التشوهات في البنى الاقتصادية، ومحاربة الفقر والبطالة وإيجاد فرص عمل وتوسيع مظلة الرعاية الاجتماعية. كما يتطلب منها التخلي عن العقلية الاستهلاكية، وانتهاج سياسة الاعتماد على الذات، وتنمية الموارد المحلية.
وحتى تتحول الدولة إلى دولة راعية، وان تقوم بالمهمات الملقاة على كاهلها، سيتطلب منها وقف كل إجراءات وتوجهات الخصخصة لأي من قطاعات الدولة الإنتاجية أو الخدمية، وتوسيع القطاع العام، والعمل على استعادة المؤسسات الإستراتيجية التي تم خصخصتها وفي مقدمتها الاتصالات والاسمنت والبوتاس والفوسفات…