قراءة في كتاب “العلمانية في سياق تحرري عربي” الدعوة للعلمانية لا تستقيم دون مشروع التحرر الوطني
“كون نظام ما علمانياً لا يقول الكثير عن جوهره، فالأتاتوركية تبنت العلمنة في سياق التبعية، والغرب المعاصر علماني في إطار النيوليبرالية”
عادت مصطلحات “العلمانية” و”الدولة المدنية” إلى التداول بشكل قوي على الساحة العربية عقب إسقاط زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. ويعتبر كتاب “العلمانية في سياق تحرري عربي ” للكاتب نصري الطرزي من أحدث الكتب التي تناولت هذه القضية من كافة جوانبها، بأسلوب علمي ومبسط بعيد عن التعقيد في اللغة.
والعلمانية وفق الطرزي هي إحدى أهم المفاهيم الملتبسة التي تتداخل مع غيرها إلى الحد الذي يجعل من دراستها وحدها مهمة شبه مستحيلة. وكثير من الكتاب المنافحين عنها عانت إما من التبسيط المخل الذي اختزل الفكرة أو عانت من الإغراق في التحليل والإسهاب والتفصيل والتعمق فصار النص المعني على شموليته ودقته صعب الفهم حتى بالنسبة لقارىء مثقف،
ويرى الباحث الطرزي أن العلمانية هي ليست الجواب على كل شيء! فهي لا تجيب عن الأسئلة الاقتصادية، ولا عن أسئلة العدالة الاجتماعية وغيرها، ومجرد كون نظام من الأنظمة علمانياً لا يقول لنا الشيء الكثير عن جوهره، فهناك أنظمة علمانية متباينة، فالأتاتوركية تبنت العلمنة في سياق التبعية، والغرب المعاصر علماني في إطار النيوليبرالية، وهناك تجارب متنوعة وصفت بالعلمانية، لكنها كانت علمانية منقوصة. العلمانية وحدها ليست وصفة نجاح أو فشل لأي نظام لكنها في الوقت ذاته مبدأ لا غنى عنه في أي نظام ديمقراطي يسعى للحفاظ على السلم الأهلي. (ص8)
ويلفت الطرزي إلى أن كتابه لا يتناول المعتقدات والعقائد الدينية ولا يتعرض لها بالنقد، فهي ليست موضوعه. والعلمانية ليست ضد الإسلام ولا ضد أي دين آخر، كما إنها ليست معادية لأي معتقد، بل يمكن القول إنها في جانب من جوانبها هي الحياد إزاء المعتقدات.(ص9)
العلمانية والدين
في العنوان الأول من كتابه، يشيرر الطرزي إلى أن العلمانية هي نتاج عملية تاريخية بالغة التعقيد وطويلة الأمد غايتها أن يصنع الإنسان مصيره بعيداً عن تحكم أنواع السلطات به.
والعلمانية هي أيضاً عدم تسلط الدين أو أي نوع آخر من المعتقدات على الدولة ومؤسسات المجتمع والأمة والفرد بما يضمن الإعلاء من شأن الإنسان وعقله وحريته. وبالتالي فالعلمانية تدبير سياسي-تنظيمي وليست معتقداً بل هي حياد الدولة إزاء المعتقدات. وإدراك هذه الفكرة في غاية الأهمية فهو يخفف من مقدار التوتر والشك القائم بين العلمانيين وجمهور المتدينين الذين لا يعرفون عن العلمانية سوى ما يقوله معادوها من تيار تسييس الدين.
.في أي سياق نضع العلمانية؟ العلمانية مستقلة تمام الاستقلال عن كل مذهب من المذاهب الدينية واللادينية، ومن هنا نرى فيها مخرجاً للوطن العربي الذي يجابه في كثير من دوله صراعاً طائفياً ومذهبياً يفتت المجتمع ويضرب مبدأ المواطنة.
الدولة العربية المعاصرة بين الدولة المدنية والدولة الدينية
يتحدث الأستاذ نصري الطرزي في عنوان آخر من كتابه حول الدولة المدنية والدولة الدينية، مشيراً إلى أنه يمكن تقديم مفهوم الدولة المدنية لاستخدامه في السياق العربي على أنها الدولة غير الدينية ولا الطائفية ولا المذهبية، غير العسكرية ولا الأمنية ولا العشائرية، وبهذا تكون العلمانية متضمنة في الدعوة للدولة المدنية الديمقراطية العربية.
أما الدولة الدينية هي التي يتحكم فيها معتقد واحد ويسودها سيادة كاملة ويوفر لحكامها الشرعية ويكون في منأى عن النقد. ويلفت إلى أن مفهوم الحاكمية تأسس في القرن العشرين على يد أبو الأعلى المودودي الباكستاني وعُرّب وشرح على يد سيد قطب، وهو المفهوم الذي تقوم عليه الدعوة إلى الدولة الدينية في الوطن العربي في العصر الحديث وتختبىء خلفه، فمن يطالب بالحاكمية يستند إلى نصوص يفسرها بما يلائم دعوته بحيث لا يضطر إلى المناداة الصريحة بدولة دينية قد يتوجس منها من يتلقى خطابه.
وفي بعض الأحيان تقدم الشورى –وفق الطرزي- كأسلوب إسلامي يضمن الممارسة الديمقراطية، لا بل يعتبرهما البعض مترادفتين، لكنهما في الحقيقة يختلفان اختلافاً جذرياً، ومن يغفل هذا الاختلاف أو يتغافل عنه يرتكب الخطأ بعدم المعرفة أو التضليل. فالشورى ليست شرطاً في الخلافة وليست تشريعاً وليست آلية للتعبير عن رغبات الشعب. إن الشورى مفهوم يندرج في دائرة مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويتجسد بتعيين الخليفة مجلساً استشارياً لا يلزمه بالقرار، فهو المسؤول أمام الله فقط وليس أمام من بايعوه. وطالما لم يكن المجلس الاستشاري منتخباً، فإنه لا يشرع ولا يقرر بل ينصح وللحاكم أن يعمل بالنصية أو بغيرها.
والنتيجة الطبيعية لهذا الفكر هي ما نشاهده من تحريض مذهبي بين السنة والشيعة، وما قام به الرئيس المصري السابق محمد مرسي في أواخر حكمه من قطع للعلاقات مع سورية لمبررات “جهادية” في الوقت الذي كان العلم الإسرائيلي يرفرف في القاهرة.
ويطرح نصري لنماذج من تطبيق الدولة الدينية: فعندما ثار الشعب السوداني ضد النميري عاشت السودان فترة قصيرة من الديمقراطية قبل أن يعود العسكر لينقلبوا على السلطة بدعم من تيار الإسلام السياسي. وفي ظل هذا الحكم المتسربل برداء الإسلام فرضت الشريعة على جنوب السودان (وهو ذو غالبية ساحقة غير مسلمة) فطالب الجنوب بالانفصال بعد أن ازداد الاستبداد والقهر من قبل السلطة المركزية. ولم يؤدي هذا التطور الأخير إلى قيام القيادة السودانية لمراجعة سياساتها، بل دخلت بمفاوضات أفضت إلى انفضال جنوب اسشودان عن شماله.
ويرى أن بعض الأنظمة نسب دولته للإسلام لكي يستغل الإسلام في أداء دور سياسي مرسوم له مثلما فعل الجنرال الباكستاني ضياء الحق الذي كان يسعى لرضى الولايات المتحدة فاستغل اليافطة الإسلاميةفي الحرب ضد الشيوعية، وقد تميز عهده بالاستبداد، فقد انقلب على سلفه المنتخب وتم إعدامه كما تميز نظامه بمعاداة التفكير العلمي..
ويختم الباحث الطرزي هذا العنوان بتعريف السلطة في الدولة العربية المعاصرة: “السلطة في المجتمع العربي ليست علمانية وليست دينية، إنها مجرد سلطة سلطوية قهرية .. ليس لديها مشروع اجتماعي، ولا يهمها تقسيم المجتمع على أساس مدني-علماني أو على أساس ديني، ما يهمها فقط هو بقاؤها في السلطة”.
ما الطريق أمام العلمانيين العرب؟
في العنوان الأخير من كتابه، يطرح الطرزي مقترحات للوصول إلى العلمانية في الوطن العربي. ويلفت إلى أنه تكفي نظرة سريعة إلى الواقع العربي ليتبين عدم استعداده لتقبل بذرة العلمانية في الوقت الحاضر، فنظرة إلى واقع التكنولوجيا والعلم والاقتصاد تكشف تراجع الإنتاج العلمي والبحثي والصناعي والزراعي بما يظهر أن مجتمعاتنا لم تخض غمار الحداثة في جانبها المادي.
ويرى الأستاذ نصري الطرزي أنه انطلاقاً من رؤية لتيار تسييس الدين، منح الحلف الغربي وأدواته البركة لهذا التيار الذي قام على أساس معاداة الأنظمة ،وهذا حقه، لكنه قام أيضاً على أساس معاداة مشروعها التحرري وعلى اساس ضرب وحدة المجتمع وركز جهوده لفترة طويلة على قضايا المظهروالسلوك، فحيد الجماهير عن النضال التحرري وزوّر وعيها. ومع أن قوى التسييس الديني حاولت أن تخفي هذا الحلف (أو التفاهم أو التواطؤ)، لكنه تكشف عند اللحظات الحاسمة: إبان الحرب في أفغانستان ضد السوفييت، لدى مشاركة الإخوان المسلمين في مجلس الحكم العراقي بُعيد احتلاله، وعند انقلاب حماس السياسي وانتقالها من محور ما كان يسمى الممانعة إلى التسليم بقيادة قطر التي تؤوي أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة. أما الدليل الأكبر فكان في قيام المشروع الأمريكي بعد ما يسمى بالربيع العربي على اعتماد قوى التسييس الديني لحكم المنطقة وإبقائها ضمن علاقة التبعية.
من هنا نرى –وفق الطرزي- أن انتصار تيار تسييس الدين هو الوجه الآخر لهزيمة التحرر الوطني، ونفهم الترابط بين العلمانية ومشروع التحرر الوطني.
هذا المشروع هو مشروع التحرر الوطني وبدونه لا تستقيم الدعوة للعلمانية، فهو المشروع الذي يتيح بناء الصناعة والزراعة باستقلالية، وهو الذي يقوم على تطوير العلم والفكر والتعليم وإعادة بناء السياسة واضعاً بذلك الأسس المادية التي تقوم عليها العلمانية، ومتيحاً المجال للتوافق بين الواقع والقناعات الفكرية..
لذلك على العلمانيين العرب البدء بتشكيل روابط لهم في الوطن العربي أو الانضواء في تجمعات ثقافية وطنية أو مجموعات ضغط تعمال باتجاه إعادة تبني القوى التقدمية لقضية العلمانية بشكل صريح وإيلائها الموقع المتقدم الذي يليق بها. ليس المقصود تشكيل حزب للعلمانيين، فالعلمانية لا تصلح أن تكون لوحدها برنامجاً حزبياً.