قراءة في أهم مفاصل الوثيقة السياسية الجديدة لحركة حماس
نداء الوطن – د. عصام الخواجا
لعل الوصف الأدق للوثيقة السياسية الصادرة عن حركة حماس بداية شهر أيار 2017 ، أنها تشكل إعادة تقديم الحركة لذاتها من خلال صياغة جديدة لمبادئها ومنطلقاتها ورؤيتها وخطابها السياسي، وهي في جوهرها تمثل مراجعةً واستبدالاً لميثاقها الصادر عام 1988 بُعيد تأسيسها، فنحن أمام ميثاق جديد يعكس التحولات والتغيرات التي أصابتها بعد ثلاثة عقود على تأسيسها.
فمن ميثاق 1988، الذي اتسمت صياغة مفرداته ونصوصه بكثافة وهيمنة الخطاب الديني الإخواني الصريح وتبني “مشروع جهادي” يسعى “لقيام دولة الإسلام” في فلسطين، وتقديمه “حركة المقاومة الإسلامية” بوصفها “جناح من أجنحة الإخوان المسلمين وتنظيمها العالمي في فلسطين”، وتبني إستراتيجية “لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد”، إلى صياغة وثيقة سياسية جديدة (2017) تعيد تعريف حركة حماس وهدفها لتصبح “حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين”، وتجنبها الواعي الإشارة لصلتها بتنظيم الإخوان المسلمين، وتبني مصطلح “خيار المقاومة” بدل “خيار الجهاد” وبصيغة “إدارة المقاومة من حيث التصعيد أو التهدئة”، أو “من حيث تنوع الوسائل والأساليب..
يندرج ضمن عملية إدارة الصراع، وليس على حساب مبدأ المقاومة”، ما يعكس تبني صياغات تعكس تداخل التكتيكي مع الاستراتيجي، ويؤسس لأخذ الحسابات السياسية والتوازنات والتطورات المحيطة، في صياغة المواقف تجاه المتغيرات، ضمن صيغة التحالفات المختلفة والمتقلبة التي تنقلت بينها حركة حماس، خاصة في العقد الأخير.
الوثيقة تبرز التمسك بالمواقف الاستراتيجية ، لكنها تترك الأبواب مشرعة للمناورة وإزالة موانع فتح علاقات مع أطراف مختلفة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتفسير النصوص حسب متطلبات التكتيك والبراغماتية السياسيةهناك عدة عوامل ساهمت في حدوث هذا التحول، وأبرزها تجربة ثلاثة عقود من عُمر حركة حماس، وانخراطها في مواجهة الاحتلال الصهيوني ومقاومته، برؤية ومرجعية منفصلة عن ما كان يجمع قوى وفصائل المقاومة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في حينه، ونزوعها (أي حماس) للعمل دون التنسيق مع “القيادة الوطنية الموحدة” للانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة 1987)، لا بل محاولتها المستمرة لتكريس نفسها قيادة موازية للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، مروراً بكل هذه السنوات التي أدخلت قيادات وكوادر وبُنية الحركة في تجربة جديدة من العمل السياسي والعسكري والتعامل مع الواقع الفلسطيني بمنظور وخطابٍ، بدأ يتطعم بالمفاهيم السياسية على حساب الدعوية الدينية البحتة، والانخراط في أطر عمل وتنسيق مشترك مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بناء على توافقات سواء سياسية أو غيرها، وصولاً إلى مرحلة خوض انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني الذي ساعدت نتائجها، على تكريسها فصيلاً منافساً لحركة فتح في الساحة الفلسطينية، لا بل وتدحرج الأمور إلى تشكيل حكومة فلسطينية برئاستها، وانتقال فتح إلى المعارضة.
إشاراتنا هذه تنطلق من أهمية خوض حركة حماس لتجربة المعارضة والسلطة، والتي كان لها أثرٌ كبير على سلوكها وقراراتها، فلم يعد مقبولاً في حساباتها، فكرة التخلي عن السلطة (حتى في ظل حصار الاحتلال لغزة)، وما مارسته في العام التالي، عام 2007، عندما سيطرت بالقوة على قطاع غزة، وتربعت على حكمه بشكل مطلق. لقد مضت عشر سنوات على هذا الفصل من تجربة حماس، فعلت فعلها، وشكلت أحد أهم روافع التحول والاستعداد للتكيف مع كل المستجدات للاستمرار في “حكم” غزة، مهما كلف ذلك من ثمن، بما فيه الاستعداد للدخول في مفاوضات وتفاهمات مع الاحتلال عبر وسطاء أبرزهم تركيا وقطر، وإرسال إشارات ورسائل سياسية من حين لآخر للأطراف الإقليمية والدولية بأنها هي الطرف القادر والمسيطر على القطاع والضامن للتهدئة.
قطر وتركيا والتقارب “الإخواني-الأمريكي”
نضيف إلى ما سبق عامل إقليمي مؤثر في التحولات التي شهدتها حركة حماس وانعكس على تبدل تحالفاتها وهو تعزيز شبكة علاقاتها ومصالحها مع تركيا وقطر، وكلا الحكومتين تربطهما علاقات سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية متنامية مع دولة الاحتلال الصهيوني، في الوقت الذي أزمت وقطعت فيه علاقاتها بالدولة السورية بقرار من قيادتها السياسية ، ووصلت الأمور حد الإعلان عن دعمها لما يسمى “الثورة السورية”، وأبرز معالم هذا الموقف رفع خالد مشعل علم الانتداب الفرنسي أو ما يسمى “بعلم الثورة السورية” في ذكرى تأسيس حركة حماس في غزة في شهر كانون ثاني 2012، لا بل وانخرط جزء من كادرها وعضويتها فيدعم المجموعات المسلحة في أكثر من مكان على الأرض السورية، وكان من نتيجة ذلك خروج قيادة حماس من سوريا، في الوقت الذي سبق وأن كانت سوريا البلد العربي والوحيد الذي رحب بحماس وقيادتها كونها فصيل فلسطيني مقاوم.
لا شك أن ما سبق لا يمكن فهمه بعيداً عن سمة التلاقي العقدي مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وهو أحد أجنحة تنظيم الإخوان المسلمين العالمي، إلى جانب الصلات الوثيقة مع قطر التي شكلت الداعم العربي الرئيسي لحركة الإخوان المسلمين وملاذاً للعديد من رموزها وقياداتها، وتوافق موقف قيادة حركة حماس مع موقف قطر وتركيا تجاه الملف السوري عزز من شبكة المصالح بين حماس وهذه الأطراف.
للإنصاف والموضوعية يجب عدم إغفال أن هناك جناحا مهما من حماس في غزة (وخاصة كتائب عز الدين القسام) ما زال متمسكا باستمرار التنسيق مع إيران وحزب الله وإعادة علاقات الحركة مع سوريا، وهو الجناح الذي نجح في استلام مقاليد المسؤولية في حركة حماس في قطاع غزة بقيادة يحيى السنوار.
في خلفية هذه التحولات في مواقف حماس، يجب أن لا نغفل التطورات التي حدثت في العقد ونيف الماضي من خطوات التقارب الإخواني الأمريكي، الذي لم يعد سراً، وهناك كم من الوثائق والشهادات الذي تدعمه، والذي خَفَتَ مؤخراً بعد خسارة هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي كانت من أكبر المتحمسين لرفع درجات التنسيق والتعاون مع الإخوان المسلمين، ليس فقط فيما يتعلق بالملف السوري بل يشمل ملفات المنطقة كافة..
هذا يعكس بلا شك حالة تكيف حركة حماس مع التطورات والمتغيرات الجيوسياسية ضمن تعاليم المدرسة البراغماتية لحركة الإخوان المسلمين، و”نصائح” و”دروس” تجربة حزب “العدالة والتنمية” التركي، فنجد أنها تبنت بعضاً مجزوءاً من بنود الميثاقين القومي الفلسطيني والوطني الفلسطيني الصادرين عن منظمة التحرير الفلسطينية عامي 1964 و 1968 على التوالي.
ما لم تذكره الوثيقة: سقط سهواً أم تجاهل مقصود
انطلاقاً من أهمية الإشارة في قراءتنا ليس فقط لما تبنته “الوثيقة السياسية” الجديدة لحماس، بل أيضاً لما لم يرد فيها من قضايا ومواقف، نرى بضرورة وجودها، عندما يتعلق الأمر بوثيقة لها صفة استراتيجية لفصيل فلسطيني ما زال يتبنى نهج المقاومة.
هنا نشير إلى بعض النصوص المقتطعة من الميثاق القومي الفلسطيني لعام 1964 والميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968 في البنود التي تتناول تعريف فلسطين، والفلسطينيون، والشخصية الفلسطينية، وكذلك المواد من كلا الميثاقين التي تعالج الموقف من وعد بلفور عام 1917 وقرار التقسيم عام 1948، حيث تتبنى “الوثيقة السياسية” المقطع الذي “يعدّ كلّ من وعد “بلفور”، وصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكل ما ترتّب عليها أو ماثلها من قرارات وإجراءات بأنها باطلة”، لكن الوثيقة، تأخذ منحىً انتقائياً بعدم تبنيها باقي النص الوارد في بنود الميثاقين، والذي يربط بطلان وعد بلفور وصك الانتداب “بأن دعوى الروابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح وإن اليهودية بوصفها ديناً سماوياً ليست قومية ذات وجود مستقل وكذلك فإن اليهود ليسوا شعباً واحداً له شخصيته المستقلة، وإنما هم مواطنون في الدول التي ينتمون إليها”.
إن تبني “الوثيقة السياسية” الجديدة لحماس لجزء من نص البند الأصلي من الميثاقين وإغفال الجزء المتبقي من النص، يعني بالنسبة لنا خللاً في موقف حماس من “المسألة اليهودية” ومعالجتها، وهي بهذا توحي بأنها لا تتبنى التفنيد الفلسطيني التاريخي “لكذبة” أن اليهودية كديانة يمكن أن تكون أساساً لاعتبار اليهود شعباً أو أمة أو قومية، وأن اليهود كما المسيحيين كما المسلمين هم مواطنون في دولهم، وإذا قبلنا بأن أي دين يمكن أن يكون أساساً لتشكيل شعب أو قومية أو أمة، فهذا يعني أننا نوافق على تسليح الحركة الصهيونية ودولة الكيان بادعاء وشعار “يهودية الدولة” وأن الدولة يمكن أن تتشكل على أساس مذهبي أو طائفي، وهو أخطر سلاح نجحت في استخدامه قوى الاستعمار تاريخياً لإحداث الفتنة والتمزيق والتدمير في غير مكان، وهو ما مارسه وغذاه الاحتلال الأمريكي البريطاني الصهيوني في أكثر من قطر من وطننا العربي من بعث للهويات ما دون الوطنية والقومية، وهو الذي يصب أولاً وأخيراً في خانة دعم الكيان الصهيوني ومشروعه في احتلال الأرض العربية الفلسطينية والجولان، ويوفر الذريعة لتنفيذ برنامج “يهودية الدولة” الصهيوني ومشروع الترانسفير للشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل.
وثيقة حماس والمسألة اليهودية
شاب قصور في تناول الوثيقة للمسالة اليهودية ومسمى “معاداة السامية” وعلاقة ذلك بالحركة الصهيونية عندما تنص الوثيقة على أن حركة حماس “ترى أن المشكلة اليهودية والعداء للسامية واضطهاد اليهود ظاهرة ارتبطت أساساً بالتاريخ الأوروبي، وليس بتاريخ العرب والمسلمين ولا مواريثهم، وأن الحركة الصهيونية، التي كانت ظاهرة العداء للسامية سبباً أساسياً في ظهورها”، وهنا نؤكد صحة أن مصطلح “العداء للسامية” ولد في أوروبا ، لكنه ليس سبباً أساسياً في ظهور الحركة الصهيونية بل على العكس تماماً، فالحركة الصهيونية الناشئة في أوروبا هي من اخترعت مصطلح “اللاسامية” أو “معاداة السامية” وأساسه صراع بمضمون اقتصادي اجتماعي بين الرأسمالية الأوروبية الناشئة واليهود الذين هيمنوا على المال وإدارته، فبرغم حصولهم على كافة حقوق المواطنة في معظم دول أوروبا بعد الثورة الفرنسية، إلا أن الحركة الصهيونية ألبست هذا الصراع مسمى “اللاسامية” أو “العداء للسامية” واستخدمته أداة من أدواتها لتنفيذ مشروعها الاستعماري الاستيطاني لفلسطين. ولم يعتد الأدب الفلسطيني المقاوم على إثارة موضوع اللاسامية في إدارة الصراع مع الاحتلال الصهيوني ومشروعه الاستعماري.
العودة لحل الدولتين؟!!
من الملفت للانتباه في الوثيقة الإشارة لموضوع الدولة الفلسطينية على حدود 1967 كأساس توافقي فلسطيني، والمفارقة أن هذا الموقف يأتي في اللحظة التي نضجت جملة من الظروف التاريخية، واتضحت أكثر مما سبق طبيعة المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي والإجلائي الذي يسير بمخطط استراتيجي منذ عقود للسيطرة الكاملة على 100% من أرض فلسطين والمقدرات على سطحها وفي باطنها، ونجح هذا الاحتلال حتى الآن، بالسيطرة المطلقة على 92% من مساحة فلسطين التاريخية بما أسقط في يدي كل من كان يعتقد بواقعية “حل الدولتين”، لتعود الأمور إلى نصابها في تجديد حالة الصراع مع هذا العدو ولتعيد الاعتبار لمقولة أن الصراع معه هو “صراع وجود وليس صراع حدود”. إضافة إلى إغفال الوثيقة للسمة الاستعمارية الاستيطانية عند تعريف الوثيقة للمشروع الصهيوني واكتفائها بتوصيفه بأنه مشروع عنصري، عدواني، إحلالي، قائم على اغتصاب حقوق الآخرين.
رمزية إعلان الوثيقة من الدوحة
مثير للتساؤل ، ويطرح العديد من علامات الاستفهام ، أن يكون قرار قيادة حماس الإعلان عن وثيقتها السياسية من الدوحة، وهي العاصمة التي كانت عاملاً في فك العزلة عن هذا العدو الصهيوني ، وتسويقه ، وبناء العلاقات الديبلوماسية والتنسيق الأمني والعسكري متعدد الأوجه معه، هذا كله في ظل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة ، ما كان يُمكنها من الإعلان عن وثيقتها من هناك.
الإعلان عن الوثيقة من الدوحة يرجح، أنها وثيقة تسوية وتحضير للمشاركة في المفاوضات ، هي وثيقة تسوية وليست وثيقة مقاومة ، وليصبح كل ما ورد من نصوص ، تبدو متشددة ومتمسكة بالعناوين الاستراتيجية، تؤكد مجدداً الدور والنفوذ القطري في قرارات قيادة حركة حماس السياسية، كما هو نفوذها في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
ختاماً نقول أن الوثيقة تبرز التمسك بالمواقف الإستراتيجية ، لكنها تترك الأبواب مشرعة للمناورة وإزالة موانع فتح علاقات مع أطراف مختلفة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتفسير النصوص حسب متطلبات التكتيك والبراغماتية السياسية.