أخبار فلسطين

في ذكرى 17 أكتوبر.. الأسير عاهد أبو غلمة يروي تجربته لأول مرّة

مركز حنظلة للأسرى والمحررين

اغتيال أبو علي مصطفى ، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، نهار 27 أغسطس 2001، وقع على رؤوس رفاق الجبهة كحممٍ بركانية مُلتهبة، أذابت قلوبهم حُزنًا، وفجّرت عروقهم قهرًا. كان المصابُ جللًا والفقدُ قاتلًا، فمن استُشهِد كان أعظم الرجال وأخلص المناضلين وأحرص الفدائيين وأوفى القادة.

فور الاغتيال، توعّدت الجبهة الشعبية بأنّ تُذيق “إسرائيل” من ذات الكأس، وأعلن أحمد سعدات، في أول خطابٍ له، في أكتوبر، بعد توليه الأمانة العامة بعد استشهاد أبو علي مصطفى، مبدأ “العين بالعين والسنّ بالسن والرأسُ بالرأس”. وهذا ما تحقّق بعد أيامٍ قليلة باغتيال الوزير الصهيوني رحبعام زئيفي يوم 17 أكتوبر 2001.

في ذكرى العملية البطولية، نشر مركز “حنظلة” للأسرى والمحررين مقالًا خاصًا للأسير الرفيق عاهد أبو غلمة، يتحدث فيه لأول مرّة عن تجربته. والكثير من الوصف والكشف لما مرّ به الرفاق في الجبهة الشعبية منذ اللحظة الأولى لاغتيال القائد المُعلّم أبو علي.

أبو غلمة، تحدّث عن وجع الفقد، وعِظَم المُصاب، وصعوبة التحدّيات على طريق الثأر لدماء الشهيد. قال “أصبحنا نسابق الزمن، كُنّا نريد إعطاء الشهيد أبو علي وكل الشهداء حقهم قبل أن يجف الدم الذي سال بفعل إرهاب الصهاينة،.. أصبحنا نتوسع في كل اتجاهٍ دون حساب، حتى استقرّ بنا الحالُ وجاء سحر الصدفة،.. التي أعطتنا فرصة الوصول إلى ألدّ أعداء الشعب الفلسطيني”.

الأسير: عاهد أبو غلمة يروي تجربته لأول مرة

بكيناك حرقةً

يبدو أننا عندما نكون مأخوذين ومنبهرين وشغوفين بإنسانٍ وقائدٍ ومنضالٍ ومقاومٍ كأبي علي مصطفى، افتقادُه يُشعرُنا برعشةٍ ما تتغلغل بدواخلنا، وتأخذنا إلي بكاءٍ ونحيبٍ وندبٍ، كأنه الملاذَ الأول والأخير في حياته، لأن الخسارة كانت لأعظم الرجال وأخلص المناضلين وأحرص الفدائيين وأوفى القادة. هذا البكاء لا يستمر إلا للحظات، لأن معلمَنا وقائدنا وأسوتنا في النضال والمقاومة صوتُه بقي فينا ينادينا ويحرضنا ويذكرنا بأن عودته كانت للمقاومة، وإرساءِ أسسٍ جديدةٍ لها فوق ثرى فلسطين، ومقولتُه مغروسةٌ فينا: “هذا العامُ عامُ السخونة في المواجهة، وما على الجميع إلا أن يعلن انحيازَه لخيار المقاومة، الذي اختارته الانتفاضة، وليستعد الجميع لاستحقاقات المقاومة”.

فكان البحث عن الهدف، لكن أي هدف هذه المرة، هدفُنا مواقعَ العدو وجيشَ مستوطنيه في كل اتجاه، لم تكن بحجم وجعنا وألمنا الذي يحرقنا من الداخل كالحطب اليابس، وكان إصرارُنا على المضيّ قدماً وإيجادِ ما يمكن أن يهدئ من روعنا وألمنا. أصبحنا نتوسع في كل اتجاهٍ دون حساب، حتى استقرّ بنا الحالُ وجاء سحر الصدفة التي دائماً تكون استثنائية؛ فحياتنا سلسلة من الصدف، التي أعطتنا فرصة الوصول إلى ألدّ أعداء الشعب الفلسطيني، قاتل الفدائيين والجنود والضباط المصريين، والمساهم في مجازرٍ اقتُرفت بحق شعبنا الفلسطيني، صاحب مشروع (الترانسفير)، وأكثرِ المتطرفين في أوساط الحركة الصهيونية، أحد اعضاء المجلس المصغر الذي قرر استهداف قائدنا أبو علي مصطفى، الوزيرِ الصهيونيّ في حكومة الاحتلال رحبعام زئيفي، الذي أصبح تحت المجهر، وتحت أعين رفاقنا، الذين لاحقوه كخياله.

وجودُ الهدفِ كان بدايةَ الطريق، كنا نحتاج معرفة أدق التفاصيل، ووضع الخطط المناسبة والمكان والزمان المناسب “لاصطياده”، وكنا بحاجة إلى رفاقٍ أكْفاء لتنفيذ المهمة الدقيقة والأولى من نوعها في تاريخ الصراع الصهيوني– العربي.

في أثناء ذلك كلّه كنّا فريسة للخوف، لكن هذه المرة كان الخوف من الفشل وعدم النجاح، خوفٌ من الضرب في المجهول، خوفٌ من أن يترك المكان؛ أصبحنا نسابق الزمن الذي كان يضغطُنا بالأساس، إذ كنا نحتاج لأن نعطي رفيقنا الشهيد أبو علي مصطفى وكل الشهداء وكل أبناء شعبنا حقهم قبل أن يجف الدم الذي سال بفعل إرهاب المجرمين الصهاينة، لأنه “عندما تُقتَل سيبكيك الكثيرون، حتى الذين يكرهونك، وفجأةً عندما يصمت الكورَس الجنائزي سيتضاءل اسمك شيئاً فشيئاً”. وما كان يضغطنا أكثر نظراتُ التساؤل والحيرة التي كنا نراها في أعين من نلتقيهم من رفاقنا أو غيرهم، فنظراتهم تسألُك: ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ ومَن؟ من الذي سيكون؟ وهل ستكون العملية على مستوى التهديد والوعيد الذي أُطلِق في خطابكم؟ وهل سيكون هدفُكم بحجم مصابِكم، وعلى مستوى الخسارة التي خسرها شعبنا ورفاقنا وكافة أحرار العالم؟. خاصةً وأنها المرة الأولى التي يتم فيها استهداف أمين عام لحزب فلسطيني خلال “انتفاضة الأقصى”، وهامة وقامة عظيمة كأبي علي مصطفى.

أثناء كل ذلك، لم يكن يُطلَب مني الشيء الكثير، سوى المحافظة على نفسي حياً “فلتبقى حياً، ليس فعلاً أنانياً تجاه الذين استُشهدوا”، وخاصةً شهيدنا القائد أبا علي مصطفى، إنما تفاهماً وتفكيراً صحيحاً تجاه الأحياء، الذين وضعوا بين يديك أمل أمةٍ كبيرة، ويُعوّلون عليكَ لتكون السند والحصن الذي سيشفي الجراح”.

في هذه اللحظات الثمينة لا تنتمي للمحيط بكل ضجيجه وتفاصيله التافهة، يبقى تركيزُك نحو الهدف، الذي سيجعل لحياتك وحياة رفاقك معنى مختلف، وسيصيب العدو في مقتل، فنحن نرفض الحلول الوسط ولا يمكن أن نقبل بالخطأ أو نساوم على المبادئ، فالعطاء بكل ما فينا هو محفزنا ومحركنا. والعظيم في الإنسان أن كل ما فيه وكل ما يحيطُ به يتغير؛ فبدل الخراب سننشئ حتماً عالمَنا كما نريد أن يكون، فالاتساع وثيق فينا وليس دائماً في الأشياء التي تقع خارجنا، وبهذا استطعنا أن نذلّل كل العقبات التي واجهتنا في التحضير لتلك المهمة/العملية.

ورغم كلّ عوامل الضغط وأهمها عامل الزمن ومعيقات لوجستية، سرنا على مسار أمين معلوف: “الأفكار التي تصنعها في قدميك، وتتصاعد إلى رأسك تعزّيك وتحفزك”، وكان اليوم المشهود الذي تأخر لأسبابٍ لم نكن مسئولين عنها، ليكون هناك أسبوعان إضافيان في عمر “زئيفي” قضاهما في إجازةٍ، لتُعطيه الجبهة الشعبية بعدها إجازة من الحياة كلها، وللأبد.

ذاك العربيد “زئيفي”، لمن لم يعرفه، كان عضواً قيادياً في كتائب “البالماخ” التي كانت القوة الضاربة قبل احتلال فلسطين، وساهم في حرب فلسطين 1948 مع المحتلين كضابط استخبارات في لواء “يفتاح”، وبعد ذلك توالى في المناصب، فشغل نائب رئيس شعبة العمليات في هيئة أركان الجيش العامة، وقائد القطاع الأوسط، ورئيس شعبة العمليات في هيئة الأركان العامة، وبعد أن ترك الجيش عمل مستشاراً لاسحاق رابين لشئون مكافحة الإرهاب والاستخبارات، وتولى إدارة متحف “أرض اسرائيل”، وفي تلك الفترة أخذ يلقي خطابات علنية عن موضوع “الترانسفير” (تهجير الفلسطينيين من أراضيهم)، كما أسس حزباً يمينياً متطرفاً باسم “موليدت-وطن” عام 1988، وعُين وزيراً في حكومة إسحاق رابين التي انسحب منها لاحقًا بسبب المفاوضات مع الفلسطينيين، وتولى وزارة السياحة في حكومة أرئيل شارون عام ٢٠٠١، وقُتل في نفس العام قبل أن تمنحه الجبهة الشعبية فرصة سريان مفعول استقالته من الحكومة.

وكان من وراء تصفية “زئيفي” رسالة واضحة للعدو الصهيوني وأجهزة أمنه، مفادها: أن المقاومة الفلسطينية قادرة على كسر وتحدي نظريته الأمنية، وأن تصل لرؤوس قياديه أولى، كما حصل مع “زئيفي” ومحاولة الإطاحة برأسيْ: عفاديا يوسف وإبراهم غليك وغيرهما، وعلى الضرب داخل كيانه، وإيلامه في عقر داره، ووضعه في حالة إرباكٍ دائم، لدرجة إعادة طرح سؤال: هل إسرائيل فعلاً المكان الآمن لليهود؟ لعل في مقاومة شعبنا شبه اليومية، والتي تضرب في قلب الكيان، وقلب مستوطناته، جوابٌ شافٍ.

أردنا أن يكون هذا العمل منهجًا وسياسةً تنتهجه فصائل المقاومة، ودرساً نوجهه للعدو المتغطرس، عند استهداف أيّ قائد من الشعب الفلسطيني، أن الرأس سيكون بثلاثة رؤوس، وأردنا أن نكون قوة الردع للاحتلال، كي لا يقدم على ما ارتكبه مجدداً، لأن العدو لا يفهم إلا لغة القوة، لوقف تماديه ضد شعبنا وقياداته، وأردنا أن يعرف العدو أن الإمكانيات المتواضعة لقوى المقاومة، لم ولن تشكل مانعاً بأن يكون ردنا يوازي ويزيد عن الضربات التي يوجهها لنا والألم الذي يصيبنا، وحينها سيعيد العدو حساباته من جديد. وهذا ما حدث لفترةٍ وجيزة، لكن لم يستمر طويلاً، حيث للأسف كان تدخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ودورها معيقاً أمام هذه السياسة، وتحويلها لنهج تمارسه فصائل المقاومة، عندما قامت بمطاردتنا واعتقلت العشرات من الرفاق بمختلف مناطق الضفة، وكان على رأسهم الأمين العام أحمد سعدات، تحت مبررات حصار الرئيس وسفر الرئيس وغيرهما، في حين كانت هذه الاعتقالات جزءًا من الاتفاقيات الأمنية والتنسيق الأمني، الذي يجعل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في خدمة الاحتلال وأجهزته الأمنية، وهذا الأمر ساهم في تقوية شوكة العدو من جديد، وجعله يبطش ويقتل ويعتقل ويقتحم المناطق الفلسطينية، التي كانت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، الأمر الذي جعل فصائل المقاومة في موقف إعادة الحسابات من جديد، في حال أرادت الإقدام على تصفية رؤوس وقيادات الاحتلال وأجهزته، فإن مثل تلك الأعمال تضعهم في خانة الملاحقة المكثفة والواسعة والدائمة من قبل أجهزة الأمن الاسرائيلية والفلسطينية معاً.

أقول أخيراً: نحن كثوريين، يجب أن لا يكون هذا كلّه عائقًا أمام أهدافنا وفعلنا المقاوم، لأننا نعي الواقع ونستمد منه نشاطَنا، من خلال برامجٍ تحدد جذرية حزبنا وثوريته في إطار النضال الوطني العام، فقدمنا نموذجاً في الثبات والتماسك والإبداع، وهي محطات غنيّة بالعبر والدروس المحفزة لشبابنا الوطني عموماً، وأعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خصوصاً.

نقلاً عن بوابة الهدف

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى