غسان.. حكاية وطن وكرامة / شهد ياسين
إن الذي يعرف من هو غسان فعلاً، يعلم جيداً أن كل ما استهلك من كلماتٍ للحديث عنه لم ولن توفيه حقه، لا لشيء إلا لأن غسان ليس مجرد كاتبٍ أو أديبٍ ترك لنا إرثاً من أعمالٍ أدبية وفقط، بل لأن غسان تعدى كونه كاتباً ليكون فكراً وفكرة، لن تراها فقط في كتبه ورواياته بل بالمقاتلين والأمهات والأطفال الذين كتبهم غسان بحبره ودمه.
منذ سنتين وأكثر والقدس تشهد فعلياً زمن الاشتباك الذي تحدث عنه غسان، كنا نقرأه كثيراً لكنا لن نعرفه حقاً إلا حين نعيشه ونراه يومياً في دواخلنا الحاقدة على عدو بطش بنا وظلم دون توقف أو رحمة، وفي وجوه الملثمين وفي وجوه والأمهات والشابات والشبان الذين بدّلوا الزمن الرديء بزمنِ غسان.. زمن الاشتباك الذي أعاد عناصر المعادلة إلى مكانها الصحيح، تلك التي راهن الأنذال على اللعب بترتيبها ليجدوا أنّ العدو لا يمكن إلا أن يظل عدواً واضحاً في نظر الأجيال كلها مهما حاولوا، وأن المقاتلين الأحرار سيخرجون في الزمن الصعب من صغارنا، من أطفالنا، أطفال غسان، ضاربين بعرض الحائط كل أساليب تجهيلهم وتخويفهم والسيطرة على وعيهم وثقافتهم.
إنهم أطفال غسان الذين لم يحتاجوا لقراءته كي يدركوه، كي يدركوا الفكرة، الأطفال الذين أثاروا الاشتباك مع عدوهم، مع عدو بلادهم، قاتلهم ومغتصب أرضهم وقدسهم، إنهم أطفال غسان الذين خرجوا كالأسود بأجسادهم الصغيرة ليقولوا لا للعدو الكبير، لم ترهبهم بنادقه ولا قوته ولا آلته ولا جنوده الأشرار، آمنوا أن للحق انتصارٌ حتمي وخرجوا بما لديهم، حتى لو كان سكيناً أمام عشرات البنادق.
إنه الجيل الذي يقرع الخزان كل يوم يا غسان، إنها حتمية المقهورين واللاجئين والمستعبدين والمظلومين أن يقاتلوا بدمهم في سبيل حريتهم المسلوبة، فغدوا أبطالاً شهداء ومعتقلين وجرحى، وأصبحوا نماذج أصدقائهم وإخوتهم وجيلٌ كاملٌ بعدهم صمم ألّا يسير إلا على خطاهم. أطفالك يا غسان الذين اختاروا الكرامة بأنفسهم مهما كان ثمنها، فوجدنا الدم النديّ يشهد على ذلك ويُشهِد القدس أنهم لم يكونوا إلا احراراً.
القدس يا غسان، القدس التي فتحت ساحات المواجهة من جديد أمام كل من قال لا، فصرخت أجساد أبنائها “لن نرتد” لتخلق نموذج الغاضبين الأحرار المنفردين وتقول للأنذال ومن تخلى عنها أن الغضب من دمها يخرج ويثور ليفتح ألف باب لكرامتها.
نحن لسنا بحاجة لقراءة غسان بقدر ما نحن بحاجة لفهم ما كتب غسان حقاً، إن الذي كتب أعمال غسان هم أهالي المخيم، وشبّان البلاد، وأطفال الشوارع وأمهات فلسطين، اللواتي طرّزن ملابس أبنائهنّ بالكرامة وحب الأرض ليصنعوا للبلاد أبطالاً. لم أستحضر في حياتي “أم سعد” كما استحضرتها حين التقيت بوالدة الأسير المضرب عن الطعام لليوم الثلاثين الرفيق بلال كايد، تلك الأم التي لا تكاد جملة من جملها تخلو من كلمة “كرامة”،لا يمكنك أن تشك لحظة أنها يمكن أن تنجب أقل من أسدٍ مقاتل كبلال كايد ياسين! لا يهمها الموت ما دام كريماً ولا الجوع ما دام ثمناً للحرية، الحرية التي لا ثمن ولا مقابل لها!
هذا هو غسان، هو كل هؤلاء الذين كتبوه كمان كتبهم، وشكلوا الفكرة، الفكرة التي انتمت للمقهورين والمستعبدين والمظلومين، الفكرة التي انتمت لمقاتلي الحرية والثوار.
غسان الأطفال الذين يحلمون بالبلاد كاملة فيرسمون خارطتها الكاملة ويحفظونها عن ظهر قلب، غسان الأطفال الذين يسألون معلماتهم عن أسماء الشهداء وكيفية استشهادهم، الذين يستفسرون عن معارك الانتفاضات الشعبية وأسماء الشوارع، ويصغون بنَهمٍ إلى روايات الثوار وحكايات أطفال أبطال سبقوهم.