عاند الهزيمة، وظل قابضا على الجمر الشهيد أبو علي مصطفى
نداء الوطن – وسام الرفيدي
التاريخ قال كلمته بخصوص (صناعة) القادة: المرحلة التاريخية، بتعقيداتها المختلفة، تصنع قادتها. مثلما صنعت المرحلة التاريخية الممتدة منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى سبعينيات القرن العشرين، والمتميزة بنهوض الحركة العمالية والشيوعية ونضالات الشعوب ضد الامبريالية، قادتها من أمثال ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي وماو وغرامشي وكاسترو وجيفارا، والعشرات غيرهم، كذلك صنعت المرحلة التاريخية على نطاق عربي بعد منتصف القرن العشرين قادته، عبد الناصر والحكيم جورج حبش وعبد الفتاح اسماعيل وبن بيللا وأبو علي اياد وأبو جهاد، قادة النضال الوطني والثوري العربي. والعكس صحيح: الهبوط الذي يطبع مرحلة تاريخية ما يصنع قادته أيضًا ولنا في القيادة السياسية الفلسطينية اليوم نموذجًا على ذلك.
ومع ذلك يبرز في مراحل الهبوط قادة استثنائيون يعطون بارقة أمل نتلمس من خلالها مفردات مستقبل جديد، وهنا يمكن الحديث مثلًا عن حسن نصرالله وأبو علي مصطفى.
في هذا السياق بالذات يمكن أن نضع الشهيد أبو علي مصطفى كشخصية قيادية تشكلت في مرحلة المدّ القومي والوطني الفلسطيني والعربي، واستشهدت في لحظة الهبوط والانهيار الذي جسدته فلسطينيًا اتفاقيات أوسلو.
التقيت الرفيق ابو علي أكثر من مرة، ويمكن القول إنني عرفته عن قرب، بعض الشيء. قلت له مرة: “شو رأيك نتعشى مع بعض؟ قال: أنا جاهز يا رفيق. قلت: ماذا تفضل على العشاء؟ فقال: ما عوّدتنا عليه أمي وأمك! وما تعودنا عليه كان مناقيش وزيت وزعتر ولبنة ومخلل وبندورة وووو… باختصار ما يجود به المطبخ الفلسطيني الشعبي. وامتد عشاؤنا تحت الليمونة في (الحاكورة) حتى بعد منتصف الليل وطبعًا لم نترك شاردة أو واردة في وضع الجبهة الشعبية واليسار إلا وتناولناها.”
أكثر ما لفتني في شخصيته أنه متواضع وبسيط في متطلباته وحياته اليومية، في لباسه واستهلاكه. ألم يشر توفيق أبو بكر لذلك بعد استشهاده عندما أبرز نظافة يده وأنه استشهد دون رصيد في البنك؟ وفعلًا لم نجد فيما تبقى من ملابسه بعيد اغتياله بصاروخين سوى 200 شاقل(40 دينار أردني)!
في معمعان نضال حركة القوميين العرب تشكل مبدئيًا، وعلى قاعدتين أعتقدهما ميّزتا تربية القوميين العرب حينها: الاخلاص الجذري لقضية فلسطين، والقيم الأخلاقية الصارمة، وتلكما سمتان برزتا في شخصيته ولاحظهما كل من تواصل معه. لم يكن من القادة الذين جذبتهم أضواء الفضائيات مثل غيره العديد العديد من القادة من الذين عادوا من الخارج، فعودته كانت وفق ما أعلن يومها بصوت صارخ: عدنا لنقاوم لا لنساوم، وربما كانت صيحته/ موقفه هذا قد جانبت صواب القراءة الدقيقة لطبيعة إجرام العدو الصهيوني فعاجله بصاروخين!
وفي غمار التحول التاريخي لقادة القوميين، وفي مقدمتهم الحكيم وأبو علي نحو مواقع الماركسية، وتأسيس الجبهة الشعبية، ما أضاف لشخصيته بعدًا جديدًا، ليس غريبًا عنه على أية حال، أعني انحيازه للفقراء عمومًا. أقول (ليس غريباً عنه) لأنه أصلًا من عائلة ريفية اقتحم أفرادها مبكرًا دروب النضال منذ نعومة أظفارهم. لم يكن يحتاج كثيرًا للمرور في الدرب الشائك للانسلاخ الطبقي عن طبقته، على عكس الحكيم مثلًا، بل ببساطة وجد في الماركسية ملاذ طبقته الفلاحية الطبيعي وسلاحًا للنضال ضد المشروع الصهيوني، فلم يتردد كثيرًا في خوض تجربة التحول مع تنظيمه الوليد في العام 67.
يمكن ببساطة عقد المقارنات لأنها متاحة ومغرية في ذات الوقت! قارنوا بين (قيادات وطنية) تنازلت عن 78% من فلسطين وتفاوض على الـ22% المتبقية، وبين مَنْ لا يقبل القسمة على اثنين بخصوص عروبة فلسطين التاريخية. الشهيد من النوع الثاني. قارنوا بين مَنْ يتعاونون أمنيًا مع الاستعمار الصهيوني ضد المقاومة ويسمونه (تنسيق أمني) ويعتبرونه مقدسًا ( هكذا!)، وبين مَنْ دفع حياته ثمنًا لموقفه ونضاله. الشهيد من النوع الثاني. قارنوا بين مَنْ بات في رمشة عين يمتلك العقارات والأرصدة والأسهم، وبين مَنْ استشهد وفي جيبه 200 شاقل. الشهيد من النوع الثاني. وسلسلة المقارنات طويلة ولا تنتهي وهي انعكاس لتلك السمة العامة لمرحلة الهبوط، والتي مع ذلك تمتاز بمن يظل يقبض على الجمر حتى في مرحلة الهبوط.