فكر

راهنية مهدي عامل؟؟

كتبه: الأستاذ وائل حمدي أبو صالحة

* طرح السؤال الأول:

علاقة الفكر بالواقع علاقة ترابط وتفاعل، وهذه مقولة رئيسية في الفكر الماركسي، إذاً الفكر ولادة من الواقع أي ولادة من التاريخ وليس خارج التاريخ.

وعلاقة الفكر في الواقع ليست علاقة ذاتية فردية أي علاقة بين وعي فردي وواقع موضوعي، إنها علاقة بين بنية فكر وبنية واقع، كما أن التفاعل فيها هو بين بنيتين، لا بين بنية فرد وبنية واقع.

إن الفرد وإن كان مفكراً لا يفكر بفكره الفردي بل بالبنية الفكرية الموضوعية التي هو سند لها، وعدم ظهور هذه البنية الفكرية للوعي الفردي لا يدل على عدم وجودها. إلا إذا اعتبرنا الوعي الفردي مقياساً للوجود الاجتماعي الموضوعي، وهذه (فلسفة هيجيلية مثالية). لا تقدر على قراءة التاريخ قراءة مادية ولا تستطيع تشخيص الواقع ووضع الحلول.

إن علاقة الفكر بالواقع ليست علاقة أفراد بواقع يخضع في تطوره لمنطق عقلاني خارج عن الإرادة الذاتية _ بل هي علاقة بنيوية يتحرك في إطارها الأفراد بفعل تطور البنية ومنطقها، سواء على صعيد الواقع الإجتماعي التاريخي أو على صعيد الفكر لا بفعل إرادتهم الذاتية.

حيث يخرج الفكر أو ينفرد عن البنية الفكرية التي تحدد الإطار التاريخي لتطوره يخرج عن الواقع الاجتماعي نفسه ويستقل عنه فيستحيل أن يكون له في هذا الواقع أي أثر.

وكيف يمكن أن يكون للفكر في الواقع فعل إذا كان الفكر يأتي الواقع من خارجه، وكأن الواقع في منطق تطوره التاريخي، مستقل عن الفكر.

شرط وجود التفاعل بين الفكر والواقع أن يكون هذا التفاعل بنيوياً، أي أن يكون فعل الفكر في الواقع للبنية الفكرية لا لفكر الفرد، ونقصد البنية الفكرية هنا: هذا الحقل الفكري الذي يتحدد فيه فكر الفرد بنيةً وتطوراً، أي هذه التربة الواحدة التي تنبت عليها أفكار متعددة قد يبلغ حد الاختلاف بينها حد التناقض، إلا أن جذورها تمتد في تربة واحدة وهي التي تحدد لها طبيعة نشأتها ومجال تطورها ووجود التناقض بين هذه الأفكار لا ينفي وجودها في تربة فكرية واحدة، بل يكون دليلاً عليه.

* إذاً لا تناقض إلا بين أطراف تضمها وحدة بنيوية واحدة.

لا شك في أن لهذه البنية الفكرية طابعاً إجتماعياً وتاريخياً يحدد و ضعها في البنية الإجتماعية الشاملة، فهي إن صح القول جزء من كل هو بدوره جزء من كل يحتويه ويحدده.

معنى هذا أن تحديد البنية الفكرية لا يكون إلا في إطار البنية الإجتماعية الشاملة (المجتمع).

غير أنه لا يتم في هذا الإطار نفسه بشكل مباشر، بل في إطار البنية الأيديولوجية الخاصة بهذه البنية الإجتماعية، فالطابع الإجتماعي التاريخي الذي يحدد البنية الفكرية ناتج من وجودها بالضرورة داخل البنية الأيديولوجية _ لا من علاقتها المباشرة بالواقع الإجتماعي.

إن علاقتها بهذا الواقع تمر بالضرورة عبر وجودها في البنية الأيديولوجية ووجودها في هذا الإطار هو الشكل الممكن الوحيد لوجودها الإجتماعي.

ففي آلية الصراع الطبقي وحدها نجد التفسير العلمي لعلاقة الفكر بالواقع وعلى أساسها فقط يمكن لنا تحديد أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني.

لقد تبدى لنا علاقة الفكر بالواقع أكثر تعقيداً من الشكل المبسط التي تظهر فيه عادة للوعي البشري، كبداها لا تتطلب أي تفكير فوضعها الضروري في إطار الحركة المحورية لصراع الطبقي يظهرها على حقيقتها كعلاقة معقدة بين الشكل الأيدولوجي لهذا الصراع وبقية أشكاله الأخرى.

أي بين ممارساته الأيديولوجية الطبقية المتصارعة وممارساته الأخرى الإقتصادية والسياسية _ إن تحول البنية الإجتماعية في إطار التناقض الأساسي الخاص بقاعدتها المادية قائم بفعل تحرك الصراع الطبقي الذي يولده ويحدده هذا التناقض الأساسي نفسه، وتحرك هذا الصراع خاضع لآلية معقدة.

* هنا نطرح السؤال الثاني:

كيف يمكن أن يكون لفكر معين خاص ببنية اجتماعية محددة أثر في فكر آخر خاص في بنية اجتماعية مختلفة، وبالتالي في التطور التاريخي لهذه البنية الإجتماعية؟

إن تطور الرأسمالية منذ مطلع القرن (19) بوجه خاص، وتغلغلها الإمبريالي، عن طريق خلقها لسوق العالمية وتحولها إلى إمبريالية وتصديرها لمختلف بلدان العالم وما أحدثه هذا التغلغل من تفكيك لبنية أنظمة الإنتاج السابقة لها وربط تبعي لتطور الإقتصادي في هذه البلدان أوجد القاعدة المادية للوحدة الفعلية لتاريخ العالمي _ في هذا التطور لرأسمالية، صار بالإمكان فعلاً التكلم عن تاريخ عالمي للتشابك الكبير في العلاقات الإقتصادية والسياسية العالمية.

التطور التاريخي لأي بنية اجتماعية في التطور التاريخي لم يعد يتم في جو مغلق، وإن كان يخضع للمنطق الداخلي لهذه البنية، بل هو يتم في إطار شبكة واسعة ومعقدة من العلاقات البنيوية التي تربط هذه البنية الإجتماعية بالعالم الخارجي، وعلى هذا الأساس من وحدة الحركة التاريخية من حيث هي وحدة تعقد وتناقض، يستحيل أن يتم تطور الحركة أو الحركات الأيديولوجية في بنية إجتماعية محددة تجد أساسها في طبيعة الحركة التاريخية نفسها، من حيث هي حركة انتقال من الرأسمالية الإمبريالية إلى الإشتراكية.

في هذا الإطار العام من التناقص بين أيديولوجية الطبقة العاملة وهي الأيديولوجية الاشتراكية، وأيديولوجية القوى الرجعية والإمبريالية وهي الإيديولوجية الرأسمالية.

* إذاً يستحيل فهم الحركة الإيديولوجية، في بنية اجتماعية محددة، بقطعها عن تربة الصراع الطبقي التي تنبت عليها وتتأصل فيها جذورها.

وهنا يكمن الخطأ الرئيسي في فهم الحريات الأيديولوجية بشكل عام في قطعها عن حركات الصراع الطبقي التي تولدها _ ويبدأ القطع هذا بإعتبارها حركات للفعل مجردة، أي حركات فكرية وليست ممارسات أيديولوجية للصراع الطبقي نفسه.

حين تستقل الأيديولوجيات في وجودها، عن الممارسات الأيديولوجية الطبقية التي تولدها تظهر في شكل أفكار مستقلة عن الصراع الطبقي، وتتولد في ذاتها ولذاتها_ في موضوعية مثالية تامة، بعيدة عن كل تحيز أو تحزب طبقي، وعلى هذا الأساس من تجرد الأفكار عن طابعها الأيديولوجي الطبقي تم ما يسمى في “عالم الفكر” أي بهذا العالم الموضوعي الذي تتلاقى فيه الأفكار في علاقة تماس مباشر أو غير مباشر، ومن غير أن تمر في مظهر العالم المادي للصارعات الطبقية.

* إذاً في هذا العالم الفكري المجرد عن موضوعيته الفعلية، تتحرر الأفكار، في علاقاتها المتبادلة، من الشروط المادية التي تحدد تحركها، فتظهر العلاقة بينها في شكل علاقة تجريبية أي في شكل علاقة من التتابع الزماني يكون فيه الفكر السابق أثر في الفكر اللاحق لمجرد كونه سابق عليه.

لهذا النوع من المنطق التجريبي المثالي تخضع أغلب الدراسات عندنا في تاريخ الأفكار، وبوجه خاص في تاريخ الفكر العربي قديمه وحديثه وهو منطق يأخذ شكل الهيكل التتابعي، يعجز عن إدراك أي علاقة غير علاقة التتابع بين السابق واللاحق.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى