ذياب في ندوة أقامتها رابطة الكتاب: القوى المعادية تسعى إلى إضعاف مناعتنا الثقافية، وعلى المثقفين التصدي الجاد لها
في ندوة أقامتها رابطة الكتاب الأردنيين بعنوان ” الصهيونية وإستراتيجية التطبيع ” قدّم الدكتور سعيد ذياب مداخلة، تالياً نصها:
بعد أن نجحت العصابات الصهيونية في إقامة كيانها على أرض فلسطين عام 1948، وبدعم من القوى الإمبريالية وفي المقدمة منها دولة الانتداب بريطانيا، سعت تلك العصابات من أجل جعل هذا الكيان أن يكون طبيعياً وتسويقه وكسر ناموس الطبيعة الذي اعتبره جسماً غريباً.
لقد برز التطبيع كمطلب رئيس وبشكل متسارع بعد التوقيع على معاهدات السلام بين الدول العربية وإسرائيل، وكان مفهوم التطبيع يتباين بشكل واضح مع كل حالة، ومن وقت لآخر راح يتطور من تحقيق سلام وخلق أجواء ثقة إلى قبول إسرائيل كدولة وصولاً إلى فرض الأساس الأيديولوجي للصهيونية.
بل أن هذا الكيان حاول ولا يزال أن يجعل من مفهوم التطبيع أكثر من مجرد اتفاقات، بل راح يسعى لجعله يتجذر في العقل والوجدان العربي.
إن إصرار هذا العدو على التطبيع لأنه يرى في مسألة انتقاله من الجسم الغريب إلى حالة طبيعية ومقبولة هي التي تضمن له الاستمرارية والوجود.
العلاقة بين المقاطعة والتطبيع:
أي قراءة للعلاقة بين المقاطعة والتطبيع، سيجد أن هذه العلاقة علاقة عكسية، فبمقدار ما تراجعت المقاطعة كان التطبيع يتقدم، وللإطلال على مضمون هذه العلاقة، نقول:
بدأت المقاطعة العربية مبكراً مع بدايات المشروع الصهيوني، انطلاقاً من قناعتها بأن التصدي للسلع والبضائع الصهيونية شكلاً من أشكال المواجهة مع هذا المشروع.
بدأت بمبادرة شعبية فلسطينية، حيث تألفت لجان أخذت على عاتقها الدعوة إلى المقاطعة، وفي عام 1923، اتخذ المؤتمر الفلسطيني الخامس قراراً بتشكيل لجنة تأخذ على عاتقها مقاطعة السلع الصهيونية، وتم ربط هذه اللجنة باللجنة التنفيذية للمؤتمر. واعتباراً من كانون الأول عام 1945، قررت الجامعة العربية التدخل المباشر في المقاطعة، وطالبت فيه الدول العربية بإغلاق أسواقها أمام البضائع الصهيونية، ضمن رؤية من أن الإباحة لدخولها سيؤدي إلى خدمة الأهداف والأغراض السياسية للصهيونية.
بعد عام 1948، قررت الجامعة نقل مكتب المقاطعة إلى دمشق، حيث حددت أن هناك ثلاث مستويات للمقاطعة؛ الأولى: مقاطعة السلع الإسرائيلية، والثانية: مقاطعة الشركات التي تتعامل مع “إسرائيل”، ثالثاً: مقاطعة الشركات التي تتعامل مع الشركات التي تتعامل مع “إسرائيل”.
لقد حققت مجالس المقاطعة نجاحات كبيرة، ولكن مع ظهور التطبيع، تلقت المقاطعة العربية ضربة كبيرة وحدّت من تأثيرها وصولاً إلى شللها في هذه المرحلة.
الموجات التطبيعية:
الموجة الأولى: كانت بعد كامب ديفيد، الاتفاقية التي وقعها السادات مع الكيان الصهيوني.
الموجة الثانية: جاءت بعد مؤتمر مدريد، تلك الموجة التي فتحت الباب واسعاً أمام هرولة الأنظمة العربية للتطبيع مع العدو الصهيوني.
الموجة الثالثة: جاءت بعد 11 سبتمبر عام 2000.
إن اللافت للنظر، أن هذه الأنظمة العربية كانت تنتظر أي لحظة للانطلاق للتطبيع مع العدو الصهيوني، والإطلالة البسيطة جداً على ما جرى، يكشف هذا الواقع. فمثلاً، في عُمان، قام رابين بزيارتها عام 1994، أسفرت هذه الزيارة عن بعض الاتفاقات من بينها السماح للطائرات الإسرائيلية بالدخول في الأجواء العمانية، وفي دخول البضائع الإسرائيلية إلى عُمان.
وفي قطر، عام 1995، أبدى وزير خارجيتها آنذاك عن حماسة كبيرة لإلغاء المقاطعة حتى لو لم يتحقق السلام الشامل.
في السعودية، شاركت بمؤتمر مدريد نفسه، وشاركت في المؤتمرات الاقتصادية المعروفة (مؤتمر الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا) والتي شاركت فيها كذلك إسرائيل تمهيداً لإدماج هذا الكيان ضمن الواقع الجغرافي الجديد.
البحرين، استقبلت وفداً من وزارة الخارجية الصهيونية، ونفس الشيء حصل مع المغرب وتونس باستقبالهما قادة العدو الصهيوني، والأغرب من كل ذلك أن موريتانيا، سارعت لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة.
ومن المفيد الإشارة بوضوح شديد، على أن أربعة دول عربية فقط، هي التي قاومت التطبيع مع العدو الصهيوني، العراق، وسورية، وليبيا، ثم الجزائر، وهذا ما يفسر عميقاً حجم الاستهداف الذي تتعرض له هذه الدول.
التطبيع كمفهوم:
كيف يفهم الصهاينة التطبيع، وكيف انعكست الموجات التطبيعية علينا؟
أولاً: بدأ الصهاينة تحديد مفهوم للسلام الذي يريدونه. قالوا بأن هناك سلام جامد، أي الحفاظ على الوضع كما هو، وعدم الاعتداء واحترام السيادة والاستقلال. وهذا لا يريدونه، هم يريدون سلام باعتباره عملية إستراتيجية متحركة ومتطورة ومفتوحة على كل المجالات التعاونية. بعد ذلك، دخل مفهوم التطبيع الذي رأوا فيه أن على العرب أن يبرهنوا للإسرائيليين على الجدية في تحول قلوبهم وعقولهم بتقبلهم كجيران وكيان شرعي. وفي سياق تطوير مفهوم التطبيع، انتقل أولاً من القبول بإسرائيل كدولة، إلى القبول بالصهيونية أي الاعتراف الأيديولوجي بها.
على المستوى الثالث من التطبيع، هو إعادة تشكيل المنطقة بأسرها حتى تتكيّف مع إدماج إسرائيل فيها، بل تبووءها مركز القيادة، وهذا ما عبرت عنه بوضوح مشروعات التعاون الإقليمي والشرق أوسطية التي طرحت في بداية التسعينات من القرن الماضي.
خلاصة القول، أن التطبيع لدى النخب الإسرائيلية يختلط مع أهدافهم في التسوية، الأمر الذي أدى إلى اختلاف هذا المفهوم من مرحلة إلى أخرى. فالتطبيع بالنهاية، بالنسبة لهم، ليس إلا دعوة صريحة للاستسلام لغطرسة القوة الإسرائيلية.
التطبيع الثقافي:
حينما احتل هولاكو بغداد عام 1258، وأقدم على إلقاء كتبها في نهر دجلة، هذا الفعل عدا عن أنه فعل همجي، فإنهم كانوا يستهدفون احتلال العقل العربي. هذا هو المنظور الذي يتعامل به الكيان الصهيوني فيا ترى أن لبّ السلام هو التطبيع الثقافي من خلال السيطرة على منظومة الوعي المتمثلة بالتربية والإعلام والثقافة. من أجل اقتلاع كل مصادر العداء وغرس مبادئ جديدة تقوم على قبول إسرائيل.
فهي ترغب في إحداث تغيير ثقافي في الجانب العربي، بينما المفارقة أنها تحتفظ هي بمنظومتها القيمية، في كل أبعادها العنصرية والعدوانية، بل وتطالبنا بتقبلها على ما هي عليه.
ما هو المستهدف في التطبيع الثقافي:
العروبة والقومية العربية، بذلت كل الجهود ولا تزال لتغييب العروبة والقومية العربية كرابط لشعوبنا. ولهذا السبب، راحت تستهدف وتسعى لتفكيك النظام العربي من خلال خلق مقاربات جديدة تؤسس لنظام جديد يركز على توسيع المفهوم الجغرافي للشرق الأوسط الذي تشترك فيه إسرائيل وتركيا وإيران وإلخ، بحيث يصبح تكريس مفهوم الشرق الأوسط على الضد من مفهوم الوطن العربي والعروبة والقومية.
وثانياً، مواجهة ثقافة التحرر الوطني العربي، استُهدفت هذه الثقافة بكل معاييرها لأنها تريد أن تبرر وجودها واحتلالها لفلسطين، لأنها إن قبلت بهذه الثقافة فإنها قطعاً ستتناقض معها ومع وجودها في بلادنا.
تطوير آليات التطبيع الثقافي:
1_ الحوار الديني: بدأت ترتفع الدعوات للقاءات بين رجال الدين اليهود والإسلام، هذه اللقاءات والحوارات في جوهرها ليس خلق تقارب بالمعنى الديني بقدر ما كانت تستهدف تقبل الوجود الصهيوني على أرض فلسطين.
2_ تطوير الخطاب الديني: وإذا كنا لا نرفض تطوير الخطاب الديني، بل نتحمس لتنقية الخطاب والتراث الفقهي من كل ما علق به، وبما يتناقض مع العلم، فالمسألة التي طرحت كانت تستهدف البحث عما هو موجود في الدين لتعزيز السلام والتسوية والاستدلال (بصلح الحديبية) ومقولة (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) كتبرير لسياسة السادات الاستسلامية.
3_ تعديل المناهج التعليمية: من خلال مؤسسة راند الأمريكية المرتبطة بوزارة الدفاع من خلال مشروع متكامل لتطوير التعليم والإشراف على تنفيذه وتطبيقه، بحيث يقود إلى تكريس التعايش المشترك مع إسرائيل. لقد رسمت هذه المؤسسة ما هو مطلوب لتعديله في مناهج العديد من الدول العربية في قطر والكويت والأردن إلخ.
4_ بناء جسور التواصل مع منظمات المجتمع المدني: ولعل انتشار منظمات غير الحكومية وما تسعى إليه لإشاعة ثقافة القبول بالآخر جزء من سياسة التأثير على الوعي العربي.
5_ تبييض وجه الصهيونية وتكميم أفواه ناقديها: تكلل هذا الجهد بإلغاء قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الصادر في 10/11/1975، والذي أدان فيه الحركة الصهيونية ودمغها بالعنصرية من خلال استبداله بقرار جديد بتاريخ 16/12/1991، الذي ألغى الطابع العنصري للصهيونية.
6_ إشاعة ثقافة الاستسلام ومقايضة استقلال الأوطان وحريتها بالديمقراطية الأمريكية القادمة إلينا عبر الدبابات الأمريكية.
لقد برز العديد من الكتّاب والصحافيين الذين انهمكوا في تبرير وصياغة مسوغات للاعتراف بالكيان الصهيوني، وأنها لا تشكل خطراً على العرب، وكانت مجموعة كوبنهاجن المعروفة السبّاقة في هذا المجال، والدكتور محمد الشعلان الذي استرسل في البحث عن قبول الكيان الصهيوني. ولكن من أفضل من تصدّى لهذه الثقافة، كتاب للأستاذ بلال الحسن، بعنوان “ضد ثقافة الاستسلام”. كل هذا يشير إلى حجم الأهمية الكبيرة للتطبيع الثقافي وخطورته على عملية الصراع مع العدو الصهيوني.
دور الحركة الشعبية في مواجهة التطبيع:
في مقابل هذه الهجمة الأمريكية الصهيونية، كان للحركة الشعبية دور بارز في التصدي للصلح والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد نجحت هذه الحركة الشعبية ببعض الإنجازات:
1_ قطع الطريق على الجهود المبذولة لنقل التطبيع من طابعه الرسمي إلى الإطار الشعبي، ويمكن الاستدلال على ذلك، برفض الشعب الأردني للتطبيع مع العدو الصهيوني.
2_ جعلت من انخراط الأنظمة في عملية التطبيع عمل يستحق الإخفاء والتحايل على الجماهير، بالإضافة إلى ذلك أن بعض الرموز المطبعة كانت تحرص على إخفاء نشاطاتها وممارساتها خشية المقاطعة والتشهير.
أشكال مجابهة التطبيع:
1_ نقطة البدء يجب أن تكون رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني والتعامل معه ككيان غاصب يجب عدم القبول بإضفاء أي شكل من أشكال الشرعية على وجوده.
2_ تفعيل مكاتب المقاطعة العربية والتصدي لمحاولات إفشال اجتماعاتها وتعطيل أعمالها.
3_ في هذا المجال، وللتأكيد على العلاقة بين نشاط الحزب ومجابهة التطبيع، سأقوم بالاستشهاد بما قدمه الأستاذ أحمد شرف، الأمين العام للملتقى العربي لمجابهة التطبيع في ورقة مقدمة للمؤتمر الرابع للأحزاب العربية عام 2006، والتي أكد فيها على وجود علاقة نمو وتفاعل متبادلة بين الأحزاب من جهة وقضايا الصراع مع الاستعمار والصهيونية وعلى رأسها المقاطعة ومقاومة التطبيع من جهة ثانية. وأن مشاركة الأحزاب بالعمل وسط الجماهير في قضايا المقاطعة، تنعكس إيجاباً على الجانبين الأحزاب والمقاطعة.
وما يؤكد ذلك، أن قضايا مقاومة التطبيع يجب أن تأتي على رأس السهم للصحوة الحزبية والسياسية العامة، وأن التراجع في التصدي للتطبيع، يقود حتماً إلى خفوت صوت الأحزاب في نضالها الديمقراطي والطبقي.
هذا يدلل على الأهمية بين هذا الربط الجدلي والمحكم بين النضال ضد التطبيع والنضال الديمقراطي، يشكل خشبة النهوض للأحزاب لمن لا يريد أن يخفت صوته وينطفئ.
نحن بحاجة ماسة في هذه المرحلة إلى تصويب الكثير من المفاهيم التي شقت طريقها تحت شعارات مختلفة ولكنها في الجوهر، لم تكن تستهدف إنصاف الشعب الفلسطيني، بقدر ما كانت تستهدف إضفاء مشروعية الوجود الصهيوني. هذه المفاهيم أخذت على عاتقها التصدي للعروبة والقومية العربية، وثقافة التحرر الوطني، وزعزعة الهوية الوطنية، وخلق صورة زائفة لصورة الاحتلال تكرّس قبول الاستسلام لشروطه.
ومن هنا، يأتي دور المثقفين في التصدي لمحاولات نشر ثقافة تقبل بالاحتلال والتعايش معه، وبالوجود الصهيوني، وبالقفز إلى الجغرافيا الشرق أوسطية، بديلاً عن الانتماء للأمة العربية.
إن القوى المعادية تسعى إلى إضعاف مناعتنا الثقافية، الأمر الذي يضع على كل المثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم، التصدي الجاد لكل هؤلاء.