«ثقافة المقاومة» يحطّ رحاله في «الأونيسكو
«ليس السلاح إلا شكلاً من أشكال المقاومة»، بهذه العبارة يمكن الخلوص من «المؤتمر السنوي الثالث لثقافة المقاومة». برعايةٍ رسميةٍ، تمثلت بوزير الثقافة ريمون عريجي، وباهتمامٍ ومتابعةٍ إعلاميتين، عقد «تكتل الجمعيات والهيئات الأهلية في لبنان» و «الملتقى الثقافي الجامعي» المؤتمر الثالث. ليس هو المؤتمر الأول من نوعه، إذ يشكل امتداداً لمؤتمراتٍ سابقةٍ عُقدت تحت عنوان «الأدب المقاوم». أما المؤتمرات الآتية فسيكون عنوانها «إعرف عدوّك».
من القاعة الجانبية في قصر «الأونيسكو» في بيروت وُجّهت تحيةٌ حارة إلى فلسطين. فيوم العودة، الذي يُعقد المؤتمر في إطار إحياء فعالياته، يجب أن يكون يوماً جامعاً. وُضعت جميع الاعتبارات جانباً، وتوجّهت الأنظار نحو فلسطين القضية، والبوصلة. وعلى مدى ثلاثة أيام سيتابع عددٌ من المحاضرين والمهتمّين بالقضية الإضاءة على مختلف قضايا الفكر والمقاومة. بالأمس، بدأت فعاليات المؤتمر مع محور «المقاومة وقضايا الفكر»، على أن تستكمل اليوم مع «المقاومة مجتمعاً وحقوقاً»، و «المقاومة في مواجهة الحرب الناعمة»، و «المقاومة وأدبها».
المقاومة الفكرية والثقافية، رفض التماهي مع الأفكار الانهزامية، انطلاقة المقاومة من فلسطين والعودة إليها، القضية المركزية، المقاومة بالبندقية والقلم والريشة وكل أدوات الإبداع، الاحتلال الفكريّ والثقافي، ثقافة الاستلاب التي تقوم على تدمير الثقافات الأخرى، كلها عناوين تطرق إليها المحاضرون. لم يأتوا عرَضاً واستعراضاً أدبياً على ذكرها، بل حاولوا إحاطتها من جميع الجوانب، وذكر أمثلةٍ أدبيةٍ حيّةٍ كان لها أثرٌ كبيرٌ في «وعي المقاومة الثقافية».
فلسطين، القضيّة التائهة وسط زحمة القضايا الفرعية، حضرت بقوة. وأمام خريطتها المترسّخة في أذهان أبنائها، توالى المحاضرون، الواحد تلوَ الآخر. فندوا بنود الصراع الثقافي والمعرفي والعلمي واللغوي، وأضاؤوا على الأخطاء والأخطار المحدقة بالثقافة والهوية. فالطلقة والرصاصة والسلاح ليست سوى وجه من أوجه الصراع. وهي قد تخبو ويتلاشى مفعولها إذا لم يدعمها العمل الثقافي والحضاري المقاوم.
أبرز المؤتمر وعياً كبيراً يتمثّل بـ «أهمية معرفة العدو الصهيوني وأيديولوجيته، وأهمية التركيز على خطر المؤتمرات التي تعقدها إسرائيل»، أكّد عبد الملك سكّريّة في كلمة «تكتل الجمعيات». كما وجّه دعوةً إلى «أمة إقرأ التي لا تقرأ إلى قراءة العقل الصهيونيّ».
خطرُ المواءمة بين المقاومة والإرهاب أخذ بدوره حيّزاً لا بأس به من العرض. فالخلط بين المصطلحين وعدم الوعي للتنافر الكبير بينهما يشكل خطراً حقيقياً على العمل المقاوم الذي بات «على المحكّ». أما «الربيع»، الذي استدعى ذكره ضحك بعض الحاضرين، فأصبح يستدعي التوضيح. وهكذا تحوّل لفظ الكلمة إلى «الربيع الحقيقيّ» في كلمة المدير العام لوزارة الثقافة فيصل طالب، التي ألقاها باسم عريجي.
طرحت جلسة المؤتمر الأولى، التي أدارها عميد «المعهد العالي للدكتوراه» طلال عتريسي، عدداً من الإشكاليات التي قليلاً ما يتم الالتفات إليها. تم تسليط الضوء على الفكر الذي تستند إليه المقاومة وثقافتها، والأفكار التي تنتج عن العمل المقاوم. إلى جانب ما تقدّم، عرض المفكّر والكاتب ساسين عساف لخطر ثقافة الاستلاب التي تقوم على الإذعان والتبعية وتدمير ثقافة الآخر. واعتبر أن أساس هذه الثقافة يوم على الشعور بأنّ الغرب يحمل رسالة الخلاص، وأنّه سيّد العالم.
ارتباط الثقافة بالهوية، والهوية باللغة، يجعل من اللغة العربية أساساً في العمل الثقافي المقاوم. يعتبر عساف أن «العلاقة باللغة العربية تكوينية، أما العلاقة مع اللغات الأجنبية فهي وظيفية». أما العربي فإنه إذا ما وعى لشكل هذه العلاقة وتبنّاها فهو يقوم بمقاومةٍ ثقافيةٍ أساسيةٍ، ويقطع الطريق أمام الطامعين بسلخه عن هويته اللغوية والثقافية.
رصاصةٌ وقصيدة، بندقيّةٌ وريشة، صرخةٌ وسكون. كلها تشكّل عماداً للعمل المقاوم وتقوم في صلبه. وبين مؤتمرٍ هنا وملتقى هناك تقف فلسطين حائرة. تنظر بعينٍ قلقةٍ على ما حلّ بجيرانها من شيخوخةٍ مبكرة. لكنّها لا تستسلم، فأملها بعودة أبنائها إليها ما زال شابا، وسوف يبقى دائماً وأبداً حقًّا لها ولهم.