أخبار عربية

تونس.. تحديات كبيرة ونظام سياسي متآكل

سقط مؤخراً (53) قتيلاً أثناء مواجهات بين الجيش التونسي ومسلحين تكفيريين هاجموا مدينة بن قردان الواقعة على الحدود مع ليبيا، في واحدة من أعنف الهجمات الإرهابية على البلاد.

وقبل أشهر قليلة، عصفت بتونس موجة من الاحتجاجات الصاخبة، للمطالبة بالعدالة ورفع المظلومية، كانت الأعنف منذ أحداث سيدي بوزيد التي وقعت إثر واقعة البوعزيزي عام (2010) وطالت الأحداث هذه المرة ولايتي القصرين وسيدي بوزيد والقيروان والأحياء الشعبية في العاصمة.

هذه المرة ليس الشباب من كان في الواجهة، وإنما الكبار، الناس العاديون، المواطنون في الريف هم الذين تجمهروا بصمت وغضب للتعبير عن خيبتهم المريرة تجاه الأوضاع أمام المقرات الرسمية للحكومة في مناطق صوتت قبل أقل من عامين لصالح حزبي “نداء تونس” و “النهضة”، ريفيون وأناس لم يسبق لهم أن تظاهروا في الشارع، حضروا ببرانسهم وجلابيبهم ليقولوا بأن نوع العلاقة التاريخية التي نشأت بين سكان المنطقة ونخبها من جهة، والدولة ونخبها السياسية الجديدة من جهة أخرى، قد أصابها العطب، تطور عميق للمجال السياسي، يشي بأنه لم يعد مقبولاً بعد الآن استمرار هذا الاختلال في التنمية، وانتشار البطالة والفقر وتوسع دائرة أحياء الصفيح في المدن والأطراف المهمشة.. كانت فرصة شعبية لإدانة النظام السياسي القائم وتحميله المسؤولية الكاملة للأوضاع المتردية.

تنتاب تونس حالياً جملة من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية المقلقة، وتواجه البلاد مجموعة من التحديات الحقيقية وسط توقعات بتجاوز عجز الموازنة (4%) وتسجل أجور الموظفين رقماً قياسياً في العام الحالي يبلغ ستة مليارات دولار، من موازنة مقدرة بـ (15) مليار دولار، ولم تتجاوز نسبة النمو في البلاد عتبة الصفر، بينما تتعمق أزمة البطالة بين الشباب وسط تسريح آلاف العمال من المصانع والقطاع الفندقي الهام، إثر ثلاث هجمات إرهابية دامية طالت قطاعي السياحة والاستثمار، الأمر الذي فاقم من تأثير جاذبية الخطر الأكبر للجماعات التكفيرية السلفية المنتشرة في أكثر من بؤرة.

في وقت تعاني فيه تونس من أزمة قيادة فعلية تُعطّل الوصول إلى مرحلةٍ تُراكم فيها السلطات أي مكتسبات وطنية واعدة، ورغم النجاح في إجراء مراجعة شاملة للدستور ونقلِه إلى حالة أكثر تقدماً بفضل مساهمة فاعلة للمجتمع إثر نقاش وطني عميق وواع على مختلف المستويات الشعبية، إلا أن كثير من التونسيين باتوا يشعرون بأن ساستهم من مختلف أطياف السلطة قد خذلوهم مدفوعين بانتهازيتهم وسعيهم لتجميع المكاسب الشخصية الفئوية والطبقية على حساب المصالح العليا للوطن.

وبدلاً من فتح الآفاق لاعتماد رؤية خلاقة لمستقبل تونس، نرى القوى السياسية في السلطة تغرق في انقساماتها الداخلية، وترتد أطراف منها إلى حقبة الماضي الاستبدادي، في حين لم يتمكن أي من الحزبين الكبيرين “نداء تونس” الحاكم، أو حزب “النهضة” ذو الاتجاه الإسلامي من تحقيق أغلبية واضحة في انتخابات 2014، فدفعا إلى تشكيل تحالف حكومي، نظر الكثيرون إليه كائتلاف مصلحي ملفّق، لم يفضي إلا إلى بروز انقسامات أيديولوجية برنامجية امتدت داخل صفوف العضوية لكلا الحزبين، وإلى تعمق الهوة المتنامية بين القيادات العليا والقواعد الحزبية في كلا التشكيلين الأكبر في البلاد.

المنشقون عن “نداء تونس” برروا خروجهم على الحزب بسبب تخليه عن أجندته الحداثية، وتقديمه تنازلات جوهرية لحزب “النهضة” المحافظ اجتماعياً، واتهموا حزبهم بالاستبداد والمحاباة في أعقاب انتخاب نجل الرئيس التونسي ليكون الأمين العام الجديد.

لم توفر الانشقاقات حزب النهضة أيضاً، حيث أظهرت تصريحات عدد من قياداته مؤخراً، وجود خلافات عميقة اخترقت تحصينات التنظيم المتماسك، وخرجت إلى المشهد السياسي والإعلامي ونالت من مكانة رئيسه التاريخي الغنوشي وهيبة قراره، وجاهر المتمردون بوجود خلافات تنسحب على قيادة الحركة وأدائها ورؤيتها السياسية، وتحولت إلى شكل من الصراع على مواقع القرار، وحمّلت الغنوشي مسؤولية خسارة الانتخابات وخطّأته بالمشاركة في الحكومة الائتلافية، وحصرت خياراتها بين تشكيل حزب سياسي مدني ينفتح على القوى السياسية في البلاد، وبين التمسك بالبناء التنظيمي القائم والهوية العقائدية المنغلقة.

كل ذلك في ظل غياب دور فاعل ليسار تونسي موحّد وفاعل، رغم تبني أغلبية فصائله، لتأويلات ماركسية راديكالية، وامتلاكه لطاقة دفع معنوي وفعل شعبي تحريضي نشط، ويعلن بصراحة تصديه للإمبريالية والنهج اللبرالي والتبعية، ولكنه في نفس الوقت، يعاني من سيل جارف من النظريات وتبادل التهم واللعنات وظاهرة التشرذم التنظيمي، ورغم تجذّره في صفوف الطلاب والنقابات العمالية وقطاعات هامة للمرأة، إلا أن دوره لم يرتقِ إلى حالة سياسية مؤثرة.

في أجواء هذه التحديات المتعددة، يبرز الإرهاب كخطر جاثم على الحالة التونسية بتنوعها وتشكيلاتها، لتصبح البلاد ضحية رئيسية لانعدام الأمن الإقليمي الذي شهد صعود تأثير مجموعات “داعش” في ليبيا المجاورة، وتجنيد أكثر من (6000) من الشباب التونسي انضموا بمراحل، إلى صفوف هذه المجموعة في سورية والعراق، ويعود بعضهم إلى الوطن أو إلى ليبيا المجاورة، وقد جاءت كلف الإرهاب ثقيلة على الإيرادات في معظم القطاعات، ومؤخرا فأن السعودية التي وعدت تونس بمبلغ (3) مليارات دولار من وعاء الاستثمار، تُظهر تردداً ومؤشرات تملص من التزاماتها.

تقول تونس بأنها استكملت هذا العام إنشاء جدار بطول (250) كيلومتر على حدودها لمواجهة الإرهاب القادم من ليبيا، ولكن أجندتها العسكرية والاستخبارية تفتقد للموارد والمعدات اللازمة، كما أن ضعف اقتصادها يوفر بيئة مولدة لمجندين جدد محتملين للتيار التكفيري.

يتميز النموذج التونسي بوجود بناء مجتمعي متقدم، ورأي عام فاعل ومنخرط في بلورة إرادة جمعية في صنع القرار الوطني، وهناك فرصة بأن يشكل التحدي الأمني حافزا  لدفع البلاد إلى حالة من الوحدة الوطنية ويخفف من حدة الاستقطابات السياسية. ولكن البلاد تحتاج بشكل مُلّح إلى حكومة تمتلك رؤية تنموية اقتصادية اجتماعية، تشكل السلاح الأكثر فعالية ضد انتشار الإرهاب، حكومة تدرك اللحظة الفارقة في تاريخ تونس، تقطع بالكامل مع بقايا نظام بن علي، وتطور من طبيعة العلاقة بين النخب السياسية وسكان عمق البلاد في الأرياف، الذين يشكلون أكثر من ثلث التعداد السكاني، وتلتفت إلى الشباب الذين يمثلون غالبية المجتمع، ويعانون من ثقل أزماته.

تونس تمتلك إمكانيات بشرية وتنموية هامة، وشعب نشيط وواعٍ ومتعلم، وروح وطنية عالية، وتستحق أن تتبوأ مكانها الطبيعي بين الدول الصاعدة. 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى