فكر

“اقتصادوية” أم عالماً بديلاَ؟! / محمد المعوش

استكمالاً لمادة سابقة، وتحديدا حول تموضع  قوى التغيير الجذري في العالم من المرحلة التاريخة التي يمر بها العالم ككل، يمكن القول ان هذا التمايز في التحليل النظري لأي حزب تغييري جذري لا يحكم نظرته الى الدول والقوى السياسية الأخرى، من حيث الانقسام الذي يحاول الغرب وأدواته تعميمه، أي القول بالتساوي العدمي بين القوى الدولية المتصارعة، وإنها كقوى متصارعة يحكمها منطق المصلحة ذاته في السيطرة والتوسع. هذا الموقف الذي يلغي، بتماثل عدمي، أن الدول الصاعدة كما الصين وروسيا هي دول لا زالت في مرحلة صراع ضد الامبريالية وبشكل أساس من أجل إيقاف التدمير الكلي للحياة على الكوكب بشرا وطبيعة.وبالتالي هي في صراعها ضد الإمبريالية تمثل مصالحها الوطنية الشاملة في الوجود كمجتمعات اساسا، وهنا تلاقيها مع مصالح الشعوب الأخرى ضد الإمبريالية. إذا نقول إن التمييز النظري للمرحلة الراهنة يحكم نسبة للموقف أعلاه الموقف الصراع العالمي وقواه، ومصيره وآفاقه، ولكن هو يحكم كذلك موقف قوى التغيير الجذري من ذاتها. فالقول أن العالم اليوم يمر بمرحلة تاريخية نوعية في وصول الرأسمالية كبنية إلى حدودها التاريخية يختلف عن القول باعتبار المرحلة الراهنة هي استمرار الإمبريالية بقوتها موجودة، أو بانتقال السيطرة العالمية من شكل لآخر.

فالموقف الاخير يبقي ضمنيا على أن مرحلة التراجع التي عانتها القوى السياسية الجذرية لا تزال قائمة موضوعيا. ولكنه واضافة لذلك يلغي التحولات النوعية في بنية الصراع وأشكاله ومضامينه الشعبية، والتي يمكن الحسم أنها تحمل مضامين اقتصادية ملموسة مادية ومضامين معنوية وجودية تلامس العلاقات الاجتماعية الرأسمالية ككل، وليس فقط الحالة الاقتصادية للرأسمالية والتهميش المادي الذي تمارسه الرأسمالية.

هذا التمييز إذا هو حاسم لناحية أساسية في ممارسة قوى التغيير الجذري الفكرية والسياسية تجاه القوى الاجتماعية التي تسعى إلى تمثيلها في طرحها وبرنامجها. فالقول بأن الرأسمالية هي في أزمتها الشاملة، يعني أن قوى التغيير الجذري لا تمثل نقيضا صراعيا ضمن الرأسمالية على المستوى الاقتصادي فقط. بل هو يعيد الى النقاش محتوى الاشتراكية كتنظيم شامل للمجتمع، لا يلغي احتكار الثروة المادية في ايدي القلة المحتكرة فقط، بل يخلق علاقات اجتماعية نقيضة، تنقل الانسان من موقع الغريب عن حياته، وكونه مجرد جزء من آلة الرأسمالية ككل، الى موقع مُنتج تجاه نفسه وتجاه المجتمع ككل. حيث ان وجوده نسبة لذاته وللاخرين يتخذ طابع الوجود الحقيقي فنتيجة عمله يصبح ضروريا له ولغيره في تلاقيه مع مصالحه الفردية التي هي المصلحة الجماعية ككل. هكذا يحصل التجاوز لكل المآسي المعنوية التي يعانيها الانسان اليوم في عصر الاستهلاك الشامل والقهر والتهميش الحياتي. مآسي الوحدة والتنافس والكراهية الاجتماعية والعنف المتبادل، والتفريغ المشوه للقهر، إما امراضا جسدية أو عقلية أو اضطرابات نفسية أو توترا اجتماعيا بأشكال مختلفة.

هذا التمييز ضروري إذا لكي تعود ممارسة القوى الجذرية إلى طروحات اكثر شمولا لكل نواحي الحياة كنمط اجتماعي شامل، وتخطي “الاقتصادوية” الجافة في حصر التغيير في جانبه الاقتصادي فقط.

هذه العودة الى الاشتراكية العلمية في تظهير الصراع واهداف التغيير كانتقال الى مجتمع اخر ممكن يعني: ان نظرة الى الذات لدى قوى التغيير الجذري تصير اكثر تلاؤما مع طبيعة المرحلة في كونها مرحلة هذا الانتقال الضروري الى ذلك التنظيم الاجتماعي النقيض

الذي يجيب على أسئلة القوى المتضررة على كل المستويات، الفردية والجماعية، وخصوصا بما يعنيه مفهوم “السعادة” الذي تستخدمه الليبرالية  من أجل القول بأن سعادة ما ممكنة ضمن نظام التهميش والقهر، مهما كان شكلها. مع أن الواقع يؤكد بان السعادة الحقيقية الممكنة تنتج ضديا ضمن الرأسمالية. فالوجود الحقيقي الفردي والجماعي هو، بكل تكثيف، الوعي بحقيقة زيف الرأسمالية كله، وبواقعها الصراعي وجعل هذا الوعي منصة لممارسة نقيضة فردية وجماعية سياسية لخلق التغيير الممكن، في رأس المصارع والمناضل الفرد، وصولا الى خياراته الكبرى في الحياة. هذا الجمال الذي عكسه الادب الاشتراكي تحت منهج الواقعية الاشتراكية. إنها الواقعية الصراعية.

ان نعلن ان الرأسمالية وكل احداثيات مجتمعها في ثقافته وعلاقاته وصلت الى حدودها التاريخية، يفرض على قوى التغيير الجذري ان تعلن برنامجها الشامل كذلك لكل حقول الحياة، وان تمارس في خطابها مفاتيح هكذا بديل ممكن، وهو في جوهره الانتقال الى مجتمع الذي يصب تطوره في خدمة الانسان ككل، في تاكيد قيمته ككائن موجود معترف فيه على حد قول “هيغل”. هذا البرنامج الشامل هو المرآة التي يمكن للقوى المتضررة ان ترى نفسها فيه. فهو برنامج المجتمع ككل، خصوصا عندما يكون وجوده الفعلي مهددا، من العدو وآلته العسكرية، أو آلته الاستغلالية المباشرة وقوته اليومي، أو آلته الاعلامية والثقافية التي تلغي وجوده المعنوي وحقه في التفكير والتطور والانتاج. إنه برنامج بناء العالم البديل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى