فكر

أي مثقف نحتاج؟؟ / فايز الشريف

أدعياء الثقافة كثر، كأن من يقرأ كتابا أو اثنين  – مع أهمية الكتابين- يصبح مثقفا. يبدأ هذا “المثقف” بطرح بضاعته عبر مجموعة من المغالطات والتناقضات يناقض فيها نفسه وكلامه، حتى في نفس الجلسة، ومنهم من يكتب فيناقض نفسه في المقالة ذاتها… لا اعتقد أن مثل هذا المثقف نحن بحاجة إليه.

من هو المثقف وما هي الثقافة بشكل عام؟! لا بد أن نتفق على تحديد لهذه المفاهيم حتى تسهل علينا مهمتنا في البحث عنه.

الكثيرون تناولوا تعريف الثقافة كل من زاويته، لكن تعريفا واحدا وجدته وأعتقد انه كان جامعا ومباشرا ويعبر عن الجوهر بأقل الكلمات، أورده المفكر الكبير الراحل محمود أمين العالم حين عرف الثقافة بأنها “التواجد النقدي للمستقبل في الحاضر”. وإذا ما وضحت لدينا الصورة التي يقصدها بهذا التعريف، عندها يسهل علينا فهم حقيقة المثقف بصفته “الحامل الاجتماعي للثقافة المجتمعية، وبالتالي نكون عندها أقدر على تحديد أي نوع من المثقفين نحن أحوج ما نكون له ولتواجده ومساهماته.

وأمام هذين التعريفين للمثقف والثقافة تقفز لدينا مجموعة كبيرة من الأسئلة منها ما يتعلق بالحاضر ومنها ما يتعلق بالمستقبل، بل ويقفز هناك سؤال اكبر عن علاقة الحاضر بالماضي، القريب منه والبعيد، وما علاقة كل ذلك بالمثقف الذي نتحدث عنه؟؟.

إننا نعني بالحاضر هنا مجمل الأبنية والظواهر والمؤسسات والعمليات الاقتصادية والاجتماعية التي نعيش فيها أو التي تحيط بنا ونتبادل معها التأثير، وما نتج عنها من مختلف ظواهر الوعي الاجتماعي. وكل ذلك لم يأت من العدم، بل انه تراكم لأطوار من التقدم الاجتماعي يصل في جذوره إلى أعماق الماضي. وقد تم بناء هذا الحاضر لبنة لبنة،وفق قوانين موضوعية للتطور. والبنّاء مهما كان ماهرا لا يستطيع أن يبني قصورا في الهواء إلا إذا كان حالما.

أي أن الحاضر هو الامتداد المتطور الطبيعي للماضي وأن هذا البناء لا يمكن له العودة للخلف إلا إذا هدمته أو هدمت أجزاء منه. وحتى في هذه الحالة لن يكون مثل الماضي وإنما صورة مشوهة عنه ومولود مسخ هزلي.

وبالمقابل فإن التاريخ في كل مرحلة من مراحله يختار الإيجابي من المرحلة السابقة ليبني عليها أبنيته. وحتى وإن بقيت بعض المظاهر السلبية لمرحلة سابقة فإنه يتجاوزها وينفيها في مراحله اللاحقة. وبالتالي فإن التوارث في التاريخ قائم وفق منظور التطور والتقدم.

وعليه فإن الرؤية المستقبلية للواقع الاجتماعي المعاش لا بد أن تأتي معتمدة على قوانين التطور الاجتماعي، ومنطلقة من دراسة الواقع الحاضر وما وصلت إليه أبنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهذه الرؤية المستقبلية هي التي ستشكل أساسا علميا لنقد الواقع تمهيدا لتغييره نحو الأفضل.

هناك مثقفين كثر لديهم رؤىً مستقبلية مختلفة، يعرفون الواقع ويريدون تغييره، ولكن كل على هواه وبشكل إرادوي وليس وفقا لقوانين التطور. فمنهم من يريد إعادة دورة التاريخ للخلف لكي يعيشوا في زمن هارون الرشيد أو المعز لدين الله الفاطمي، وهناك قسم آخر يريد أن يؤبد الأبنية القائمة وأن يقف في وجه التطور التاريخي الموضوعي، وهناك قسم ثالث من “المثقفين” طابت لهم الاستكانة وارتضوا لأنفسهم ولمجتمعاتهم ما يأتي به القدر. إن كل هذه الأقسام من “المثقفين” بالإضافة إلى كونها تقف عقبة أمام التطور التاريخي، يسهل استغلالها أيضا لتكون أداة طيعة للطبقات والمؤسسات التي لها مصلحة في إدامة وتأبيد الوضع القائم.

إن المثقف الذي يعرف واقعه جيدا، والذي يحمل رؤية مستقبلية معتمدة على قوانين التطور الاجتماعي، ويقوم بنقد الواقع على أساسها، ويساهم في التغيير وفقها، هو ذلك المثقف التقدمي الثوري الذي يشارك مجتمعه مهام التغيير والبناء الايجابي… إنه نموذج المثقف الذي نحتاجه بالضبط.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى