د. سعيد ذياب يكتب لـ “الهدف”.. أوسلو: من الثورة إلى وهم الدولة
بعد (25) عاماً من المفاوضات العبثية… التوجه لبلورة مشروع وطني يرتكز على وحدة الوطن والشعب الفلسطيني
في الثالث عشر من أيلول عام (1993) أي قبل ربع قرن، وقَع محمود عباس، نيابة عن ياسر عرفات في باحة البيت الأبيض اتفاقية “اوسلو” (مع الكيان الصهيوني).
هذا الاتفاق الذي شكل محطة مفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وكان نقطة البداية في تحول دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية من قائدة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى سلطة في كنف الاحتلال.
بلا شك أن ظروف الاتفاق الذي جاء بعد حرب الخليج الثانية وتدمير وحصار العراق وما رافقها من عملية جلب للنظام الرسمي العربي إلى مؤتمر مدريد في 30/10/1991، وفي ظل واقع سياسي تمثل بهيمنة الولايات المتحدة كقطب وحيد على العالم، كل ذلك ساهم بشكل كبير، بل حدد مسبقاً مضمون الاتفاق لصالح العدو الإسرائيلي.
أعتقد أن جذور “أوسلو” تذهب بعيداً إلى فترة البدايات، ففي الوقت الذي رفعت الثورة الفلسطينية شعار تحرير فلسطين مستلهمة تجربة الثورة الجزائرية ونموذجها، وقدمت نفسها كحركة تحرر وطني تواجه مشروع استعماري استيطاني، كان في الوقت نفسه يتبلور داخل الثورة تياراً لا يرى في الثورة أداة للتحرير الشامل من الكيان الصهيوني، بل وسيلةً من أجل دفع الأمور نحو تسوية سياسية بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني.
هذا يعني أن تحولاً متدرجاً كان يتبلور، وبدأ يطل برأسه للتحول من دور حركة التحرر في مواجهة مشروع كولونيالي استيطاني، نحو التحول إلى حركة قومية في مواجهة “حركة قومية” أخرى، ضمن هذه الرؤية يمكن قراءة النقاط العشرة، التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني عام (1974) باعتبارها كانت البداية لفرضية جديدة للصراع.
وتعززت هذه الرؤية بالاستجابة الحرفية لشروط ريغان لقبول الولايات المتحدة الأمريكية التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما حدث في الدورة الــ(19) للمجلس الوطني الفلسطيني عام (1988) حيث اعترفت المنظمة بقرار التقسيم وأكد البيان كذلك الاعتراف بقرار (242) ورفضه للإرهاب بكل أنواعه.
إن هذا التحول في النظرة للذات ولجوهر الصراع وتحويله من صراع بين حركة تحرر ضد استعمار استيطاني، إلى صراع بين حركة قومية و “حركة قومية” أخرى، وهو ما حاولت الحركة الصهيونية تسويقه وشكل الأساس الفلسفي لقرار التقسيم وهو ما دفع الفلسطينين لرفض ذلك القرار لتمسكهم بوطنهم من ناحية ورفضهم لتلك المقولة من ناحية أخرى.
استندت كل هذه المسيرة وهذا التحول إلى الوهم الذي تسرب إلى ذهن القيادة المتنفذة في منظمة التحرير بإمكانية إقامة سلام عادل مع كيان عنصري استيطاني، هذه الفرضية التي أثبتت تجارب كل الشعوب التي ابتليت بهذا النوع من الاستعمار أنها فرضية فاشلة ولا تستند إلى دليل، كون هذه الكيانات العنصرية لا تتعامل مع الشعوب الأصلية إلا بخيارين، إما الإبادة والتهجير أو فرض العبودية والإلغاء الرمزي لها، ولم يسجل في التاريخ حالة تسوية أو تقاسم للأرض بين المستوطنين وأصحاب الأرض الشرعيين.
لقد نتج عن “أوسلو” سلطة وبدل أن تكون هذه السلطة خطوة على طريق بناء الدولة الفلسطينية سرعان ما تحول دورها إلى وكيل أمني للاحتلال تحت شعار مضلل (التنسيق الأمني) وشكلت المفاوضات غطاءً للكيان الصهيوني لخلق وقائع جديدة على الأرض من خلال تكثيف الاستيطان.
كل هذا التحول قاد إلى تآكل المشروع الوطني، وبدا ذلك في التراخي بالموقف من حق العودة، وانعكاس القبول بمبدأ حل الدولتين إلى قسمة للوطن، وانقسام الشعب من خلال تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة الفلسطينية، الأمر الذي ترك مكونات الشعب بدون مرجعية وطنية وبشكل أساسي فلسطينيي الشتات وفلسطينيي عام (48)، وقاد هذا العمل إلى انهيار الكيانية الفلسطينية وحتى الهوية الفلسطينية.
إن التخريب الذي أحدثته اتفاقية “أوسلو” طال كل شيء بما فيه المنظومة القيمية للمجتمع، حيث تراجعت قيم الإيثار والتضحية ونمت الولاءات ما دون الوطنية (العشائرية والحمائلية) وتعمق الانقسام الفلسطيني وغابت الوحدة الفلسطينية عن أي شيء.
باختصار كانت “اوسلو” نهجاً ومساراً تم من خلالها تشويه الوعي بشكل متواصل ومتدرج ولم يكن إدوارد سعيد مبالغاً حينما علق على الاتفاق بقوله أنه (لم يسبق لأي حركة تحرر في التاريخ أن باعت نفسها لأعدائها كما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية).
الآن، وبعد (25) عاماً من المفاوضات مع عدو يعلن كل يوم أن لا سلام إلا إذا قبل الفلسطينيون كل شروطنا، ويؤكد الكيان الصهيوني كل يوم أن رؤيته الاستراتيجية في تعامله مع الشعب الفلسطيني تنبثق من رؤيته الاستعمارية الاستيطانية ومتطلباتها، بحيث بات الحديث عن دولتين من قبل السلطة ليس إلا هروباً من المواجهة مع العدو الصهيوني، وأن وهم السلام لا يزال يعشعش في عقول تلك الفئة المتنفذة في السلطة والمنظمة.
الأمر الآخر، هو قانون القومية الذي أقره الكنيست الصهيوني مؤخراً، فعبر هذا القانون يكون الكيان الصهيوني قد شرعن نظام الأبارتهايد، وهو على كل حال ليس جديداً، على اعتبار أن سياسة الفصل العنصري كانت هي الناظمة للمشروع الصهيوني منذ التأسيس، وبدا أكثر وضوحاً في الاقتصاد الصهيوني الذي بني بشكل منفصل عن المؤسسات الفلسطينية. هذا القانون، عدا عن تشريعه للفصل العنصري فإنه يهدد وجود الفلسطينيين ذاته، ويغلق الطريق على حق العودة.
هذا الفشل للتسوية وفشل الرهان عليها وتشريع نظام الابارتهايد، يفرض علينا من أجل الخروج من هذا المستنقع:
1_ التوجه نحو بلورة مشروع وطني يرتكز على وحدة الوطن الفلسطيني ووحدة الشعب الفلسطيني ويلبي طموحاته.
2_ مغادرة نهج التسويات التي ارتكزت في جوهره على تقسيم الوطن وبالتالي ضرب وحدة الشعب الفلسطيني.
3_ تحديد الوسائل النضالية الملائمة على ضوء كل الخبرة التاريخية للشعب الفلسطيني ومدى تلاؤمها وخدمتها للمشروع الوطني الجديد، ولنا في الانتفاضة ومسيرات العودة أمثلة على ذلك. 4_ مطالبة العالم في التعامل مع الكيان الصهيوني كنظام ابارتهايد ومقاطعته.
5_ تفعيل لجان مجابهة التطبيع خاصة وأن بعض الأنظمة العربية لم تعد تخفي استعدادها للتعاون مع الكيان الصهيوني بل حتى الدخول معه في تحالفات سياسية وأمنية.
رغم صعوبة المرحلة فإني أعتقد أن القوى الطليعية، إذا ما تحلت بروح المبادرة والمثابرة والسعي لامتلاكها القدرة على إقناع الجماهير بأنها تعمل من أجل تحقيق أهدافها، فإنها حتماً ستشق طريقها نحو الانتصار.
نقلاً عن بوابة الهدف