الحرب على الإرهاب.. بين التضليل وازدواجية المعايير/ بقلم: د. موسى العزب
- تتبع فرنسا، الغطرسة الأمريكية في الادعاء بأن العنف متخلف التقنية الذي يستخدمه الضعيف يُعد خطراً لا يمكن مقارنته مع عنف التقنية المتطورة، وهو موقف يعكس نوعاً من العجرفة العنصرية الاستعمارية
ستة أشهر سجن، وغرامة مالية بقيمة 7500 يورو، هذا ما ينتظره بعض الفرنسيين لخرقهم التعليمات العرفية بمنع التظاهر في منطقة باريس. فقد تظاهر المئات في ساحة الباستيل تضامناً مع المهاجرين. وفي اليوم التالي، حوّل المحافظ أسماء 58 ناشطاً إلى النائب العام من بينهم نشطاء سياسيين ونقابيين وحزبيين، ولكن معظم من تم استدعائه تمرد على القرار ورفض المثول أمام القضاء، واعتبروا أنفسهم ضحية قمع أعمى، يُوظف الاعتداءات الإرهابية لتخويف الناس وضرب الحريات، وأدانوا الذهنية الأمنية الرجعية للدولة.
وإمعاناً في تحدي السلطات، وتأكيداً على حقهم المطلق بالتظاهر، نشروا في ساحة الجمهورية وسط باريس 22 ألف زوجاً من الأحذية في وجه السلطات.
في الأثناء تُكرر الحكومة الفرنسية أكذوبة التفوق الأخلاقي وتنادي بالحرب المقدسة ضد الإرهاب “البرابرة أعداء الحضارة”، وتروج لتفسير سطحي ضحل للظاهرة دون أن تقدم أية حسابات لأي سياق اجتماعي أو سياسي أو قومي للاعتداءات، وهنا تتبع فرنسا، الغطرسة الأمريكية في الادعاء بأن العنف متخلف التقنية الذي يستخدمه الضعيف يُعد خطراً لا يمكن مقارنته مع عنف التقنية المتطورة، وهو موقف يعكس نوعاً من العجرفة العنصرية الاستعمارية. ومن خلال ذلك، تسعى الحكومة الفرنسية لحشد مواطنيها والدول الغربية بإشاعة الخوف وتأجيج التوتر العرقي والديني من أجل تحقيق أهداف سياسية.
منذ هجمات باريس الإرهابية، تسير الحكومة الفرنسية ومن خلفها البريطانية بوقاحة نحو حرب مضللة كما فعل بوش سابقاً، حرب تقتل الأبرياء وتدمر مقدرات الشعوب دون أدنى تنسيق أو تعاون مع قوى المنطقة أو الالتفات لمصالح شعوبها.
الرئيس الفرنسي المأزوم الذي حشر الظاهرة في إطار الصراع الحضاري، يحاول جذب اليمين المعارض إلى جانبه تحت ادعاءات تماسك “الجمهورية” أمام خطر الإرهاب الماحق! حيث توافق الطرفان لاستغلال الاعتداءات لعرقلة استقبال المهاجرين على أراضيهم، ولتغييب أسباب الصراع الاجتماعي لصالح ديماغوجيا شوفينية ضد عدو خارجي!! هكذا تتهرب مختلف أطياف الطبقة السياسية الفرنسية من نقاش حقيقي يحدد أسباب صعود الإرهاب ودور الدولة الفرنسية في ذلك، وهذا تكتيك واهم لن يؤدي إلا إلى تحشيد الجمهور خلف اليمين العنصري المتطرف.
الهجمات التي ضربت فرنسا وهددت بلجيكا وبريطانيا، لم تأت على أيدي أجانب، وإنما قام بها مواطنون ولدوا وترعروا في هذه البلدان وشاركوا في الإرهاب التكفيري بتواطؤ وعلم من أجهزتها الأمنية.
لقد نشأ هؤلاء في أزقة الفقر حول المدن الأوروبية المرفهة، وعاشوا مع أسرهم على هامش هذه المجتمعات، ودون تحقيق نجاح في الاندماج العادل في مجتمعاتهم، وقد تفاقمت مشكلاتهم مع تعمق أزمة النظام الرأسمالي من ركود اقتصادي وبطالة وفقر، تدفع أثمانها في الغالب الفئات الأضعف في المجتمع، حيث تصل نسبة البطالة بين أبناء هذه الشريحة، إلى ضعفي وأحياناً إلى ثلاثة أضعاف النسبة الوطنية، بينما يشكلون حوالي 70% من نزلاء السجون.
في الحالة الفرنسية، فإن وجود رئيس ضعيف ومراوغ، وصعود حركة يمين متطرف عنصري، قد وفرت البيئة الملائمة لدفع هذه الفئات نحو المزيد من العزلة والإحباط، فوقعت أعداد منهم بأيدي جماعات متطرفة ادعت بأنها تقدم لهم ما كانوا يفتقدونه من الشعور بالانتماء والهوية والغاية.
أما التطرف الديني الذي أصاب الأوساط الإسلامية، فقد نتج عن حالة تواطؤ بين أموال مشيخات النفط، وبين حكومات وأجهزة هذه الدول، جرى بموجبه تمكين الأيديولوجية الوهابية المتشددة من السيطرة على نسبة كبيرة من المراكز الدينية والمساجد التي كانت تحت رعاية دول شمال افريقيا ومقارباتها المتسامحة الصوفية للإسلام، مقابل صفقات أسلحة ووعود نفطية واستثمارات تجارية ملتبسة بمليارات الدولارات.
مع بداية الأزمة السورية، لعبت الأجهزة في كل من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا بالخصوص في التشبيك مع بعض المراكز الدعوية لإرسال بعض النشطاء وأصحاب السوابق للقتال في سورية، خدمة للسياسات المعلنة في كل من باريس ولندن، القائمة على التدخل لقلب نظام الحكم السوري بالقوة تحت ذرائع نشر الحرية والديمقراطية، حيث اصطفت الدوائر الغربية إلى جانب جهات معروفة بتشددها ورجعيتها وعنفها، ولم يكن ذلك سوى رهانات خاسرة تولد عنها دمار كبير وموجات هجرة ما لبثت أن ارتدت إلى كل أوروبا.
إن ما تقوم به فرنسا حالياً من استعراض عسكري وقصف بالطيران، لن يؤدي في الغالب إلا إلى قتل المزيد من الأبرياء وتقديم الدعم لداعش في خلق مجندين وانتحاريين جدد، فالمحاولات الأمنية والعسكرية التقليدية لم تعد قادرة على هزيمة الإرهاب، وعلى أوروبا أن تكف أولاً عن مناكفات الصراعات الثقافية، وأن تسرع بتقديم معادلة لائقة وعادلة لأزمة اللاجئين، وأن تتصدى لسياسات التهميش والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. عليها أن توقف تأجيجها للانقسامات العرقية والمذهبية، وتدخلها في شؤون الدول والشعوب المستقلة.
هزيمة “داعش” تتطلب بداية منع حلفاء الغرب في المنطقة في دول الخليج وتركيا من دعم الإرهاب، ووقف إرسال الأسلحة والمسلحين الجدد إلى هناك. محاربة الإرهاب تبدأ برفع الظلم والفقر، وحماية حقوق الإنسان وحريته وتنمية موارده وإعادة الاعتبار لمفاهيم التحرر لشعوب العالم وفي مقدمتها الأمة العربية بالتعاون لإيجاد حلول سياسية لأزماتها، ولا معنى لهذه المعركة إذا لم تبدأ بوضع حداً للإرهاب الصهيوني وحل القضية الفلسطينية بتحرير فلسطين وعودة الحقوق إلى أصحابها.