أخبار محلية

المفكر الماركسي د. هشام غصيب: اللاعقل المقدس أصبح مسيطراً على ثقافتنا

نقدم في هذا العدد الجزء الثاني من مقابلتنا مع المفكر الماركسي الدكتور هشام غصيب، حيث نتطرق في هذا الجزء لنشأة داعش وعلاقته باللاعقل المقدس، ودور الإعلام الموجه في تغذية هذه الظاهرة. كما نتحدث معه حول الوضع المحلي الأردني وأزمة اليسار وآليات الخروج من هذه الأزمة. إضافة إلى الحديث عن التعليم العالي والحال الذي وصل إليه.

 

داعش والفاشية الدينية

نداء الوطن: ألا ترى أن داعش ليست سوى استمرارية للفكر التكفيري منذ تنظيم التكفير والهجرة وتنظيم القاعدة مروراً بتنظيم الجهاد العالمي واتنهاءً بتنظيم أبو مصعب الزرقاوي؟ هذه الظاهرة تكبر بين الفينة والأخرى ليواجهها الأمريكان، ومن ثم تعود للصعود وهكذا. كيف تتنامى هذه الظاهرة وما هي أسباب قدرتها على استقطاب هذا العدد الكبير من الأشخاص من كافة بقاع الأرض؟

غصيب: ظاهرة التكفيريين ظاهرة معقّدة، وجذورها موجودة في منطقتنا، ولكن أيضاً هنالك بُعد إمبريالي لهذه الظاهرة.

دعنا نسميها “الفاشية الدينية” وهي قد تبرز في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وبالتالي فهي لا ترتبط بدين معين. هذه الفاشية تأتي دائماً نتيجة هزائم وإخفاقات، فالفاشية الطليانية أو النازية الألمانية، جاءت نتيجة الهزيمة في الحرب العالمية الأولى والمرارة التي شعر بها الألمان – على سبيل المثال -، كما لعبت الإمبريالية – آنذاك – دوراً كبيراً في تفشي هذه الظاهرة.

هذه الفاشية السوداء التي استحضرت مفهوم الفرقة الناجية وسبي النساء والاسترقاق، وأعادونا لعصور ما قبل الإقطاع، جاءت نتيجة ثلاثة هزائم مرّت وأربعة إخفاقات مرّت بها أمتنا:

أولاً: هزيمة العقل في حضارتنا، حيث تم تصفيته ولم يُعاد بناؤه.

ثانياً: فشل حركة التنوير العربية، حيث لم تستطع هذه الحركة من التجذّر ولم تكن بالعمق الكافي ولم تتوطن في الأوساط العربية وظلّت نخبوية.

ثالثاً: فشل مشروع حركة التحرر العربي: والنقطة المفصلية هنا كانت هزيمة الـــ 67، فهزيمة عبد الناصر كانت هزيمة لأعظم مشروع لحركة التحرر العربي، وما تبقى من هزائم كانت تفاصيل صاحبت هذه الهزائم.

أما الإخفاقات الأربعة فهي:

أولاً: الإخفاق السياسي: حيث لم نستطع أن نبني دولة حديثة بأي شكل كان. لا يوجد لدينا دولة حديثة، وإنما سلطة مافيوية، ولا يوجد لدينا دولة مؤسسات بما في ذلك مصر. كل الدول العربية تعتمد على الفرد والشلل.

لم ننجح على الصعيد السياسي في بناء دولة، في المقابل، فإن دولاً مشابهة لأوضاعنا استطاعت بناء الدولة كما هو الحال في دول أمريكا اللاتينية وفي الهند.

ثانياً: الإخفاق على الصعيد الاقتصادي، حيث لم ننجح في التصنيع، وعلى الرغم من محاولات عبد الناصر في ذلك، إلا أنه لم يكتب لها النجاح. كما فشلنا في الزراعة. وقد صاحب الإخفاق الاقتصادي ارتفاع معدلات البطالة والفقر.

ثالثاً: إخفاق الهوية: لم ننجح في بناء الهوية القومية الحديثة، حيث أدى هذا الفشل إلى بروز الهويات ما قبل الحداثوية كالقبيلة والطائفة والعشيرة، فازدهرت هذه الهويات ما قبل الحداثوية لأننا أخفقنا في بناء الدولة القومية الحديثة.

اللاعقل المقدس

أما الإخفاق الرابع، فهو الإخفاق الثقافي، فثقافتنا لا تزال ما قبل العلمية أو ما قبل الحداثة.

فلا يزال يحكمنا (اللاعقل المقدس).

 في العصر الوسيط، كان هنالك عقلانية حقيقية في العهد الإسلامي إغريقية المنشأ. هذه العقلانية تم حصارها وهزيمتها وتصفيتها وحلّ محلها اللاعقل حيث تم تقديسه، الأمر الذي ترك أثره في ثقافتنا وخطاباتنا التي أضحت خطابات ما قبل علمية.

أصبح اللاعقل دوغما وتم تعطيل العقل في خطاباتنا، وأضحى الخطاب الثقافي السائد هو خطاب اللاعقل.

هذه الهزائم والإخفاقات، وفّرت الأرضية المناسبة لظهور الحركات الدينية الفاشية. لكن يبقى الأهم وهو أن سيطرة الرجعية النفطية وبدعم من الإمبريالية وفرا الشرط المالي لظهور وانتشار هذه الحركات. فلم يكن لهذه الحركات أن تحظى بهذا النفوذ لولا الرجعية النفطية العربية.

الإعلام الموجه .. داعش بديلاً عن الحراك الثوري

نداء الوطن: لكن ألم يلعب الإعلام أيضاً – المسيّطَر عليه من قبل الدول النفطية – دوراً كبيراً في إعطاء هذا الزخم لهذه الحركات، والذي وصلنا فيه لدرجة أن يقدم شخص كالعريفي ندوة فيحضرها الآلاف، فيما أقل من العشرات من يتابعون ندوة فكرية؟!

غصيب: عندما بدأت الجماهير العربية بالتحرك، شعرت الدول النفطية بالقلق على حكمها فدفعت بأداتها الرئيسية (القوى الرجعية والإخوان المسلمين والقاعدة وتفرعاتها) مستغلة سيطرتها على الفضائيات والمدارس ودور العبادة ووسائل الإعلام على اختلاف أنواعها. عندما يكون لديك المال وهذه الأجواء من الهزيمة والإخفاق فمن الطبيعي أن تجد الملايين تنضم لهكذا حركات.

الجماعات التكفيرية بأموال قطر وتركيا وأمريكا وغيرها.

القاعدة لم تستطع الدخول إلى العراق في ظل حكم صدام حسين، وكان سُنّة العراق معروفين برحابتهم وليس تكفيريّتهم، وبمجرد دخول الأمريكان إلى العراق، استطاعت القاعدة الدخول إلى هناك. ما يطرح تساؤلاً: لماذا نجح صدام في منع دخولهم وأخفق الأمريكان في ذلك؟ الإجابة ببساطة هي لأن الأمريكان فتحوا لهم المجال، ومن ثم تم تفريخ جماعات تكفيرية من تنظيم القاعدة.

داعش بدأت كظاهرة عراقية، ولكن تم توفير المجال لها كي تتمكن. احتلال الموصل – وهو نقطة التحول المفصلية – كان بتسهيل أمريكي لتحقيق غايات:

أولاً: إسقاط المالكي بحكم علاقاته مع إيران وسوريا.

ثانياً: الضغط على إيران وسوريا.

ثالثاً: تبرير يهودية الدولة الصهيونية من خلال إقامة الدولة السنية.

الحركة العلمانية الثورية وعقلنة الدين

نداء الوطن: هل ترى أن مواجهة داعش كفكر تكون بمواجهة الإسلام كأيديولوجيا، أم في إيجاد حركة إسلامية عقلانية؟

غصيب: أنا مع أي حركة عقلانية.. في الحضارة العربية الإسلامية برزت حركة عقلانية منذ عهد المأمون والمنصور وكان الخلفاء بحاجتها من أجل التنمية لأنهم كانوا يديرون إمبراطورية يريدون تنميتها، وبالتالي كانت العقلانية العربية تمضي بالتوازي مع الدولة التنموية، لكن أخفقت العقلانية العربية في اختراق قلعة “الدين” والتي هي على تماس مع الجماهير حيث ظلّت قلعة الدين بيد اللاعقل، ولذلك هُزمت العقلانية العربية.

في أوروبا الصورة مختلفة، حيث وقعت المصالحة الكبرى بين الدين والعقلانية العربية – اليونانية ممثلة بابن رشد، والفضل في ذلك يعود لتوما ألاكويني الفيلسوف ورجل الدين، فتوطدت عندهم العقلانية، ومن ثم انتقلوا إلى العقلانية العلمية.

أنا مع محاولات عقلنة الدين – على سبيل المثال محاولات محمد عبده – التي أخفقت حتى الآن وأرى شيئاً إيجابياً فيها وأشجعها ولكني لا أعول عليها.

التعويل هو على حركة علمانية ثورية وردّ الاعتبار لحركة التحرر العربية، من خلال إعادة بناء “عقل” حركة التحرر العربية الثورية على أسس ثورية علمية. ولكن ليس من خلال تكرار التجربة الناصرية أو الشيوعية، بل من خلال الاستفادة من ثغرات هذه التجارب. حتى الحركات الإصلاحية الدينية وحركات عقلنة الدين، لا يمكن أن تتم بدون حركة تحرر عربي ثورية.

ولكن لا يمكن أن تحقق أي نوع من العقلنة والتنوير بمعزل عن القاعدة الاجتماعية الاقتصادية التاريخية.

علينا أن نبني أنفسنا كحركة التحرر العربي وفي هذا السياق “يُعقلن” الدين، وفي نفس الوقت، يتم تقليص أثره وتأثيره، وتدريجياً تحل ثقافة التحرر الوطني وتصبح هي الأساس.

الأردن: فساد ونخب تخدم الإمبريالية الأمريكية

نداء الوطن: ننتقل إلى الشأن الأردني الداخلي، هل ترى أن تركيبة الحلف الطبقي الحاكم المكون من البيروقراط والعسكر من جهة، والليبراليين من جهة أخرى، في ظل التمادي نحو الخصخصة أخذت تنحو أكثر نحو الليبرالية على حساب البيروقراط والعسكر؟ أم أن هذا البيروقراط لا يزال يمسك بمفاصل رئيسية في الدولة؟

غصيب: هل هنالك حلف طبقي؟ أنا أشك في ذلك، أنا أرى أننا لسنا أمام حلف طبقي حاكم، هنالك نخبة تقود هذا البلد، وهنالك فساد، وهذه النخبة تقوم بخدمة المصالح الإمبريالية في الداخل الأردني وفي المنطقة.. أنا أفهم وجود حلف طبقي في فرنسا أو بريطانيا، ولكن الأردن لا يوجد بها حلف طبقي.

نداء الوطن: ولكن ألا يوجد في داخل السلطة طبقة بيروقراطية ممثلة بكبار الموظفين وأصبحت تشكل عبئاً على هذه السلطة؟

غصيب: بالتأكيد هذه النخبة لها أدواتها وهذه الأدوات صار لها ثقلها ومصالحها المرتبطة بالمجتمع الأردني، وبالتالي بدأت السلطة تشعر بقيد على أدائها وأنها ليست حرة تماماً في تنفيذ الوظائف التي يمكن أن تقوم بها هذه السلطة.

الأمريكان والصهاينة يريدون ربط الأردن بما يحدث في فلسطين. لقد تم تحويل الأردن إلى مخيم كبير، وله دور وظيفي وهنالك هيمنة أمريكية كبيرة جداً، كما يوجد مستفيدون من داخل النظام من هذا الوضع ومنفذون له.

من يرسم السياسات للأردن هم الأمريكان وصندوق النقد الدولي. ولكن أيضاً هنالك قيود لتمرير هذه السياسات. فالمجتمع الريفي شرق الأردني لا يزال معتمد كلياً على أجهزة الدولة كمشغّل على الرغم من أنها بدأت تخف في المجتمع شرق الأردني وتخلق إشكاليات ما أدى إلى تحول جزء منهم نحو داعش وغيرها.

اليسار الأردني: لملمة الصفوف في ظل انهيار تنظيمي وفكري

نداء الوطن: ما هو المطلوب من اليسار الأردني في ظل التشرذم الذي يعيشه وغياب القيادات القادرة على توحيده من جهة، وتلبية مطالب الجماهير التي أصبحت بعيدة عنه من جهة أخرى؟

غصيب: وضع اليسار سيء جداً في هذه المرحلة، مشكلة اليسار أنه لا يزال متوهم أن الساحة له، ولم يدرك بعد أنه فقد الساحة. ونحن ملعب صغير جداً جداً ولا زلنا نمارس المناكفة مع بعضنا البعض وهذا يحدث بالذات في حالة اليسار الشيوعي، فتجربة اتحاد الشيوعيين تعاني من الشلل، وأصبحنا أمام إطار عديم الفعالية.

على اليسار إعادة لملمة الصفوف، ولكن على قاعدة واضحة ومحددة، وهي تحتاج إلى فتح حوار فعلي وواسع جداً. بسبب الوضع الجيو سياسي بالأردن فاليسار مرتبط ارتباط وثيق بما يحدث بالمنطقة، فعلى سبيل المثال، النظرة إلى الموقف السوري أحدثت شرخاً كبيراً في أوساط اليسار وصلت حد التخوين. 

اليسار الأردني مُنهار ويعاني من فوضى تنظيمية وفكرية، فعلى سبيل المثال، هنالك ضياع من ناحية الفكر ومن ناحية النظرة للقضية السورية والفلسطينية والأوضاع في الأردن.

نداء الوطن: كيف يمكن الوصول للجماهير، هل من خلال التقاط قضايا حياتية يومية ويعمل عليها بشكل مترابط؟

غصيب: يجب في البداية لملمة صفوف اليسار على قواعد واضحة وتوضيح المرجعية وتوحيد المواقف من القضايا الكبرى. أنا لا أعتبر بعض من يسمي نفسه “يسار” بأنه يساري، بل على العكس، أرى أن هؤلاء في الصف المقابل، وهم أقرب إلى اليمين من اليسار.

التعليم العالي: جامعات مش شركات تعبير حقيقي عن واقع التعليم الجامعي

نداء الوطن: ننتقل إلى سؤالنا الأخير: في ظل ارتفاع الرسوم الجامعية والتوسع في البرنامج الموازي والدولي، هل ترى أننا بدأنا نشهد بدايات تعليم عالي طبقي؟

غصيب: عندما تخصخص التعليم بهذه الطريقة وتحوله إلى تجارة، وأنا أتفق تماماً مع الشعار الذي أطلقته “ذبحتونا” وهو جامعات مش شركات، وبالتالي ما تحدثت عنه هو تحصيل حاصل لهذه السياسات. في الفصل الماضي قمت بتدريس مساق لطلبة الدكتوراه لأكتشف أن هنالك 26 طالب في المحاضرة. عندما يصبح التعليم تجارة فهذا يعني انتهاء شيء اسمه علم وتعليم في الجامعات. المنطق الذي يحكم هذه الجامعات هو المنطق التجاري. وللأسف الحكومة غير مستعدة لتقديم أي أموال للجامعات الرسمية، وبالتالي تلجأ هذه الجامعات إلى جيب الطالب. وهذا أثّر على مخرجات التعليم العالي، والتي انحدرت بشكل كبير جداً.

لا يجوز أن تركب العقلية التجارية على الصحة والتعليم.

اظهر المزيد

نداء الوطن

محرر موقع حزب الوحدة الشعبية… المزيد »
زر الذهاب إلى الأعلى