مقالات

الرهان على جيوب مستنزفة وفارغة!

لا تنقص رئيس الوزراء الحجة، بل ويثير مبدئيا التعاطف في خطاباته وتصريحاته حول صعوبة الأوضاع الاقتصادية وتحديات المالية العامة للدولة، وضرورة تحملنا جميعا لإجراءات قاسية اقتصاديا للمرور من هذه المرحلة الصعبة. لكن كل هذا التفهم يختفي عندما يبدأ الحديث عن الحلول والإجراءات المالية المطلوبة، والتي تقدمها الحكومة التزاما باشتراطات صندوق النقد الدولي لخفض العجز.قد يكون الخلاف الأساسي مع الحكومة هو في عدم تقديرها بأن المواطنين الأردنيين، بأغلب شرائحهم الاجتماعية، لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من الارتفاعات في الأسعار والضرائب والرسوم، وهي الوصفة الوحيدة في أفق أي حلول حكومية لمواجهة العجز بالموازنة. فتآكل الدخول وتردّي المستويات المعيشية وانسحاق الطبقة الوسطى لم يعد محتاجا لأدلة كثيرة في ظل المؤشرات الملموسة على الأرض.
الحديث والتسريبات الخارجة من بيت الحكومة اليوم تشير إلى أن المطلوب رفع ايرادات الخزينة ضمن موازنة الدولة للعام القادم بنحو 400 مليون دينار، أكثر بقليل أو اقل بقليل، بحسب المباحثات التي ستجرى مع صندوق النقد الشهر المقبل، وبالتالي فإن ذلك يتطلب – وفق النهج الحكومي المعهود- فرض أو رفع بعض الضرائب والرسوم، إضافة إلى التفكير جديا بتعديل قانون ضريبة الدخل لإلغاء بعض الإعفاءات وتوسيع القاعدة الضريبية، ما يعني عمليا توقع موجة جديدة من رفع أسعار سلع وخدمات، ومزيد من تآكل الدخول والتردّي بمستويات المعيشة.
موجات الرفع للضرائب والرسوم والأسعار التي طالت الأردنيين على مدى السنوات العجاف الماضية، لم يقابلها تحسن مواز للدخول والأجور ولا حتى لعجلة الإنتاج في قطاعات اقتصادية عديدة، في ظل تعثر النمو الذي زادته سوءا وأزمة الأوضاع الاقليمية الملتهبة حول الأردن وما تركته من آثار اقتصادية وتجارية وأمنية كارثية. وبالمحصلة شمل الغلاء مختلف المجالات الحياتية، مسكنا ومأكلا ومواصلات وتعليما وطبابة وكل شيء.
لست اقتصاديا، ولا خبيرا في اجتراح واقتراح الحلول الاقتصادية لمواجهة العجز والوضع الصعب للمالية العامة، لكن تلمس صعوبة المعادلة وخطأ وكارثية الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تركز على زيادة ايرادات الخزينة من جيوب المواطنين والقطاعات الاقتصادية المختلفة، كنهج حكومي وحيد منذ ابتلانا الله بوصفات البنك وصندوق النقد الدوليين، لا يحتاج لاقتصاديين، بقدر ما يحتاج لمجسّات سياسية واجتماعية وأمنية، لتقدير حجم التدهور الحاصل على أوضاع الناس بشرائحهم المختلفة، معيشيا واجتماعيا، وتقدير –أيضا- عدم قدرة هؤلاء الناس على تحمل أية موجة جديدة من الغلاء.
ثمة مؤشرات اجتماعية واقتصادية وأمنية عديدة، يمكن ملاحظتها دون كبير خبرة، تنغل في المجتمع اليوم جراء السياسات الاقتصادية الرسمية المتبعة، مؤشرات مرتبطة بالفقر والبطالة والحاجة للمعونة والجريمة والانحراف والتنمر على القانون والنظام العام، واتساع ظاهرة الشيكات المرتجعة وتسريح الموظفين وإغلاق مؤسسات وشركات، وغيرها.
جانب آخر من المؤشرات الدالة، يمكن استقاؤه من تقارير وبيانات البنك المركزي حول اتساع لجوء المواطنين إلى القروض من البنوك والمؤسسات الاقراضية الاخرى. فحسب آخر نشرة للبنك المركزي فقد ارتفعت قيمة قروض البنوك في النصف الأول من العام الحالي بمقدار 1.147 مليار دينار، أو ما نسبته 5 % مقارنة مع مستواها في نهاية العام الماضي، حيث وصلت قيمته الإجمالية الى 24.05 مليار دينار.
فيما أشارت بيانات المركزي أيضا إلى أن 390 ألف أردني اقترضوا من مؤسسات قطاع التمويل الأصغر نحو 211 مليون دينار العام الماضي، حيث بلغ متوسط حجم القرض 519 دينارا، واعتبر هذا العدد مرتفعا بصورة كبيرة بالمقارنة مع الأعوام الماضية.
ارتفاع الإقبال على القروض لا يعكس نشاطا اقتصاديا بقدر ما يعكس تراجع قدرة الناس على الادخار، وعلى تأمين متطلبات الحياة الأساسية من تعليم ومسكن ومواصلات وطبابة.
لكل ذلك، يجب أن نقرع الخزان أمام رهان الحكومة مرة أخرى على جيوب المواطنين، وهي جيوب فارغة ومستنزفة بكل ما تحمل هاتان الكلمتان من معنى!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى