تركيا.. بين انتهازية الدور والتباس الهوية
حتى قبل فرز الأصوات الرسمي للمشاركين في الاستفتاء الشعبي على إدخال تعديلات جوهرية على الدستور التركي، أعلن الرئيس أردوغان عن فوزه، ووقف أمام أنصاره يلقي خطبة الإنتصار. ورغم حصوله على نسبة حرجة بلغت أقل من 51% من الأصوات، إلا أنه بدا وكأنه قد حقق للتو فوزا ًساحقاً!اعتاد الزعيم التركي أن يحقق الانتصارات في معظم الانتخابات التي يخوضها، ولكن هذه المرّة اختلف الأمر، لم يقف إلى جانبه سوى زعيم الحزب القومي الفاشي، بينما غاب عن المشهد تماما أهم شركائه في تأسيس حزب العدالة والتنمية؛ غول وأوغلو وآخرون.
منذ اليوم أصبحت تركيا أقل ديمقراطية وأكثر تديناً وأعمق انقساماً وعزلة من أي وقت مضى، في واقع الأمر لم يكن إردوغان يوماً زعيماً تصالحياً، وإنما مارس الحكم دوماً عن طريق تأجيج الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية، وسحق معارضيه، ووظف زعامته لحزبه ليعمل منذ 15 عاماً للوصول إلى هذه اللحظة.
أُدخلت تركيا عام 1952 إلى الحلف الأطلسي، وشكلت داخله ثاني أضخم قوة عسكرية، وتلقت لذلك الكثير من المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية لمواجهة أجواء الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، فتغاضت الدوائر الغربية عن الانقلاب العسكري عام 1980، والدستور الذي وضعه العسكر وشرّع للمؤسسة العسكرية دوراً سياسياً مقرراً، حرم الرأي العام من الخوض في المسألة الكرديّة، وللتصدّى لتحديات الوضع الاقتصادي المأزوم وصعود اليسار المتواتر، سعى الجيش إلى استقطاب العناصر المحافظة من النخب الاقتصادية وإبعاد العناصر الأكثر انفتاحاً في الحركة الكمالية، قرّب الفاشيين الجدد للحزب الوطني، وقدّم تسهيلات متعددة لحزب أربكان، فجعل التعليم الديني إجبارياً وأقام مدارس متخصصة للقرآن.
أضعفت التحولات الاقتصادية الليبرالية النسيج الاجتماعي وخاصة في قطاع الشباب الذين أخذوا بالتحول إلى الإسلاميين ضد الدولة بعد أن وجدوا عندهم الدعم المادي والتأطير السياسي.
بدأ أربكان تدريجياً بمواجهة علمانية أتاتورك المتجذرة، وهوية “الأمة” التركية المتطلعة إلى أوروبا، بالتوجه إلى الأوساط المحافظة والمتدينة والمهجرين في أحياء الصفيح وأحزمة الفقر حول المدن الكبرى مستفيداً من إضعاف قوى اليسار، فحشد إلى جانبه عدداً كبيراً من الكوادر المثقفة النشطة في العمل النقابي والطلابي وبرجوازيي المدن، حيث بلغت عضوية حزب الرفاه (الإسلامي) آنذاك مليون وربع مليون عضواً، وبدأ بسحب الأصوات الإسلامية من الأحزاب الليبرالية والقومية موظفا مؤسساته الاجتماعية الاقتصادية وانفضاح فساد الطبقة السياسية وعجزها، وطرحه لتفكير سياسي إسلامي معتدل يغازل الهوية القومية، ويقدم مشروعاً واعداً لإخراج البلاد من أزماتها المتعددة.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تراجعت حاجة الغرب إلى تركيا قوية على خاصرة أوروبا، فتراجع الاهتمام بتطور أوضاعها الداخلية، هي لحظة أُبعد فيها أربكان وقفز إردوغان إلى السلطة بأدوات الحزب الكبير، فأظهر وجهاً براغماتياً يخفي نزعة فردية إقصائية، ويكرس تعددية تكتيكية تستوعب دورا ًمركزاً للجيش وأولوية للأمن والردع، والإخضاع بدل الحوار، فأصبح ملف حقوق الإنسان يتعرض دوماً للانتقادات والإدانة الداخلية والخارجية.
شهدت البلاد فترة من الاستقرار الأمني، وحققت قفزة تنموية محسوسة، أبقت القضية الكردية حبيسة بعدها الإنساني. خارجياً، إستمرت تركيا بالإستقواء بالموقف الأمريكي عبر تعزيز “تعاونها” المتعدد مع “إسرائيل”، دون أن يمنعها ذلك من إقامة تفاهمات وعلاقات متبادلة مع الجيران، ورغم ذلك لم تستطع تركيا دخول البيت الأوروبي “بحمولتها المشبوهة” وهويتها المتأرجحة.
عندما تفجرت الأزمة في الإقليم، تدخلت الحكومة التركية بقوة إلى جانب التمرد المسلح وقوى الإرهاب التي تقاطرت عبر أراضيها إلى سورية والعراق. وهكذا جددت أنقرة دورها الوظيفي في المنطقة، لتتحول إلى أداة ضاربة للغرب في مشاريع إضعاف دول الإقليم وتفكيكها وإسقاطها. فلم تعد تركيا ذلك البلد الصاعد، وبدلاً من تعزيز مكاسب الديمقراطية منحت الحكومة الأولوية لتعزيز سلطتها وإضعاف سلطات الشعب، فأطلت مظاهرات اسطنبول الحاشدة عام 2013، كجرس إنذار مبكر واجهة إردوغان بمزيد من القمع والإنكار، فجاء الانقلاب العام الماضي ليقوّض كل شيء.
بذريعة مواجهة الانقلابيين، نفذت الحكومة عملية “تطهير” غير مسبوقة، شملت أكثر من 135 ألف من الشرطة والجيش والقضاء، أوقف 47 ألف شخص، وتم التنكيل بعشرات الآلاف من المدنيين، أغلقت 130 قناة إعلامية و21 صحيفة كبرى.
سيطر مناخ من الخوف وعدم اليقين، انكمش الاقتصاد، وعمل دَين تركيا المرتفع على تسارع وتيرة التدهور المالي والاقتصادي وساءت علاقاتها مع أوروبا والاقليم، وأصبحت تعاني من عزلة داخلية وخارجية على السواء، فيما أصبح الأكراد قوة “مزعجة” مؤثرة.
في إطار التحضير للاستفتاء، عمدت الحكومة إلى تهميش أصوات المعارضين والتضييق على كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وخطف أردوغان، مخاوف البلاد الأمنية والاجتماعية لتأجيج نزعة قومية ودينية شعبوية.
حصل إردوغان على مراده، ولكنه في الحقيقة قد خسر أكثر من 25% من أصوات مناصريه في أكثر معاقل الحزب ولاءً، ولم يسعفه من الخسارة سوى تحالفه مع الحزب القومي الذي يمتلك حوالي 15% من الأصوات. سمحت التعديلات الدستورية للرئيس بأن يقود حزبه الخاص وحل البرلمان وتعيين الحكومة وقيادتها، واختيار أغلبية القضاة وإعلان حالة الطوارئ وسن بعض القوانين بمراسيم رئاسية، الأمر الذي سيؤدي إلى انحراف ديمقراطي استبدادي لمجمل النظام والمؤسسات، وانزلاق خطير نحو الدكتاتورية.
يستقوي اردوغان بتأييد ترامب له، فيدير ظهره لأوروبا المأزومة. وهو يدرك بأن إنتقادات بعض العواصم الأوروبية لسياساته لن تكون مؤثرة، سيما وأن الدول الغربية عموما تعتمد على دوره في ضبط موضوع الهجرة، وتشكيل حائط صد أمام تغلغل الإرهاب إلى أوروبا، وأيضا لتصاعد تأثيره في أزمة الإقليم، لذلك ستبقى سياسته الخارجية تجاه سورية والعراق دون تبديل، وهو يدرك بأن المشروع الإمبريالي الصهيوني “للشرق الأوسط الكبير”، ليس له فرصة إلا بتركيا إسلامية بحزب ديني قوي، وحكم مطلق يجذب الطامحين لتمثل التركة الدينية التاريخية بعمقها المذهبي، يحسن الفرص لإقامة كيان “سني” يفصل سورية عن العراق.
في الداخل لن يكون وضع الرئيس أفضل، فعلامات الانقسام واضحة داخل حزبه وبين صفوف المجتمع والشعب، وحليفه الفاشي يتربص به عن يمينه، وصراعه مع الجيش ومع حركة غولن لم يحسم بعد، سيندفع إلى تدابير استثنائية فظة لتعزيز سلطته، وقد نشهد قريبا تفكك النخبة الحاكمة وتأجيج التوتر المجتمعي، فهل يستطيع أردوغان مجابهة كل هذه التحديات؟!