مقالات

الاتحاد الروسي: تحدّيات.. وخيارات

محمد خواجة

عند مطلع الألفية الثالثة، قرّر الاتحاد الروسي وقف مسار الانحدار «اليلتسيني» وسياسة محاباة الغرب من غير طائل، ساعيا لإعادة رسم خريطة فضائه الاستراتيجي الذي تقلص حتى حدوده الدنيا، إثر انضمام بلدان «حلف وارسو» وجمهوريات سوفياتية سابقة إلى حلف «الناتو»، لترتفع عضوية ناديه من 16 إلى 28 دولة. لم يكتفِ الحلف بهذا القدر، فسعى خلال العقد الماضي، لجذب جورجيا وأذربيجان وأوكرانيا، بقصد استكمال تطويق بلاد القياصرة، وحصر نفوذها ضمن نطاق جغرافيتها.

بالتزامن، كانت الولايات المتحدة تنشر قوات في شرق أوروبا ودول البلطيق المحاذية للحدود الروسية، وتنصب أذرع منظومة الدرع المضادة للصواريخ على أراضي بولندا وتشيكيا وتركيا، ورومانيا لاحقاً، بذريعة درء خطر الصواريخ البالستية الإيرانية! لم تقنع الذريعة الأميركية روسيا التي اعتبرت أن الدرع موجهةٌ ضد ترسانتها الصاروخية والنووية بالدرجة الأولى، بما يخلّ باتفاقيات الأسلحة الإستراتيجية القائمة بين البلدين. وَكَرَدٍّ عملاني، أقدمت على نشر صواريخ تكتيكية (اسكندر- أي) القادرة على حمل رؤوس نووية في جيب كالينينغراد المحاذي للحدود البولونية.

في السياق، أتت «ثورة» كييف المدعومة من واشنطن والغرب، مطلع العام 2013، لتطيح السلطة الموالية لموسكو، تمهيداً لفتح أبواب الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» أمام أوكرانيا، الذي يسعى لجعلها خط تماس مباشرا، بعدما شكلت، لعقدين، حاجزاً فاصلاً بين روسيا وبلدان بولندا ورومانيا والمجر، الشوكة المتقدمة للحلف في شرق أوروبا. ولحماية أمنها القومي، سارعت موسكو إلى استعادة جزيرة القرم، القاعدة الرئيسة لأسطول البحر الأسود، وشجّعت حركات الاحتجاج في مقاطعات جنوب شرق أوكرانيا، التي تقطنها غالبية روسية، على السعي للانفصال عن المركز.

استغلّت واشنطن وحلفاؤها رد الفعل الروسي لإعلان الحرب المفتوحة، فكانت البداية عقوبات متدرجة طالت الاقتصاد وشخصيات مقربة من الرئيس بوتين للتأثير فيه. وبعدها، تواطأت مع الرياض «لتهبيط» سعر برميل النفط إلى ما دون الـ 50 دولاراً، ما أثّر في صرف الروبل الذي فقد نحو ثلثي قيمته الشرائية، خلال ستة أشهر. كما أدّى إلى خسارة الخزانة الروسية قرابة 120 مليار دولار حتى الآن. هذا الوضع، جعل الرئيس الأميركي يتفاخر، أثناء إلقائه خطاب حال الاتحاد، قائلا: «اليوم، الولايات المتحدة هي التي تقف قوية ومتحدة مع حلفائها، فيما روسيا معزولة واقتصادها متهالك».

وقد سبقه السيناتور جان ماكين بالتصريح لمحطة «سي أن أن»: «علينا تقديم الشكر للسعودية التي سمحت لسعر برميل النفط بالهبوط لدرجة تؤثر بصورة كبيرة في الاقتصاد الروسي». واستهدف التلاعب بسعر النفط أيضا كلا من إيران وفنزويلا والعراق ولو بدرجة أقل.

في أجواء هذه المناخات الضاغطة، صدّق الرئيس فلاديمير بوتين وثيقة العقيدة القتالية للجيش الروسي (2015 ــ 2020) التي حدّدت 14 خطراً، وبعض خيارات الرد عليها. وهي شبيهة بوثيقة 2010، مع تحديثات جديدة أبرزها:

1 – تحول حلف «الناتو» من تهديد لروسيا إلى التهديد الأول لها، بإصراره على الوصول إلى عتبات أبوابها، عبر منح عضويته لأوكرانيا. وكان برلمانها، الذي تهيمن عليه قوى موالية للغرب، قرر قبل نهاية 2014، التخلي عن وضعية الدولة غير المنحازة، وهي خطوة ممهدة للانضمام إلى الحلف لاحقاً. هذا التبدل الخطير، دفع بالرئيس الروسي لوصف الجيش الأوكراني بفرقة أجنبية تعمل على إرباك بلاده لمصلحة القوى الغربية.

2 – انزعاج روسيا من نشر الحلف قوات في دول البلطيق وشرق أوروبا، وإجراء المناورات العسكرية والطلعات الجوية الدورية، وكذلك تواجد السفن الحربية الأميركية في بحار بارنتس والبلطيق والأسود والمتوسط. وكإجراء مضاد، تبنّت العقيدة الروسية الجديدة مفهوم «الردع غير النووي» عبر تكثيف المناورات، ورفع كفاءة القوات العسكرية التقليدية، وإبقائها في حالة جهوزية عالية.

3 – أشارت الوثيقة إلى سعي الولايات المتحدة لعسكرة الفضاء، ونصب أقمار صناعية عالية الدقة، وأسلحة إستراتيجية في مداراته، مستعيدة تجربة حرب النجوم «الريغانية» خلال ثمانينيات القرن الماضي، التي أدّت إلى تسعير سباق التسلح مع الاتحاد السوفياتي. وتسعى واشنطن لتكرار التجربة، وجر موسكو إلى سباق ينهك حيويات اقتصادها الضعيف أصلاً.

4 – أضاءت الوثيقة، للمرة الأولى، على أهمية القطب الشمالي، كمنطقة استراتيجية للتنمية الاقتصادية، غنية بالطاقة والثروات الطبيعية. وألقت على القوات المسلحة الروسية مهمة حمايتها، كونها محاذية للحدود مع الولايات المتحدة وكندا.

5 – لحظت الوثيقة أحقية استخدام روسيا لترسانتها النووية، في حال تعرضها لعدوان أو تهديد يمس وجود الدولة، أو أيا من حلفائها الأقربين. لكن مع الالتزام بالطابع الدفاعي، «لأن تفادي نزاع عسكري نووي أو أي نزاع آخر، يشكل أساس السياسة العسكرية الروسية».

6 – تتزايد مخاوف موسكو من مخاطر الإرهاب الداخلي، لزعزعة الاستقرار وتهديد وحدة الاتحاد الروسي، لا سيما بعد ارتفاع وتيرته، وانفلاش الحركات المتطرفة في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا. وتشير الوثيقة إلى عدم التعاون الجدي من واشنطن وحلفائها للقضاء على آفته السامة.

7 – لفتت الوثيقة الأنظار إلى الحرب الاعلامية التي يشنها الغرب ضد سياسات الرئيس بوتين، لزعزعة الاستقرار السياسي والوضع الاجتماعي، بقصد تأليب الرأي العام الروسي عليه. وأكد كل من سيرغي إيفانوف رئيس ديوان الكرملين، وميخائيل فرادكوف رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، وجود خطط أميركية تستهدف إسقاط إدارة بوتين، وإن إحدى الخطط تتضمن العمل من أجل تقسيم روسيا إلى 50 ولاية ومقاطعة، عبر إثارة الفتن العرقية والدينية، وتحريض الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز ومناطق ما وراء جبال الأورال.

إضافة إلى ما تقدّم، تبنّت العقيدة القتالية الجديدة خيارات سبق واعتمدتها روسيا للرد على «البلطجة» الغربية، منها: إقرار خطط لرفع كفاءة أذرع الجيش، لا سيما في مجالات أسلحة البحر والجو والفضاء. وتكثيف الطلعات الاستطلاعية للقاذفات البعيدة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية من طراز «تو- 95- أم أس» و»تو – 160» ومقاتلات «سوخوي-35» في الأجواء الأوروبية. وكانت هذه الطلعات قد توقفت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، واستؤنف العمل بها مجدداً، العام 2011. هذا فضلاً عن رفع الموازنة العسكرية حتى 83 مليار دولار لعام 2015، أي بزيادة 15 في المئة عن موازنة العام الفائت، إضافة إلى نفقات الخطة العشرية (2010 – 2020) الجاري العمل بها، وقيمتها 750 مليار دولار، لتحديث أسلحة ومعدات الجيش الروسي.

ما تقدّم من معطيات، هل يعني أننا أمام مشهدية حرب باردة جديدة، وعودة إلى حقبة ما قبل سقوط جدار برلين؟ لا نظن ذلك، فالظروف الدولية تغيرت كلياً، والعالم لم يعد منشطراً بين اصطفافين تحركهما الايديولوجيا أكثر من المصالح. ومن يرصد مسارات السياسة الخارجية الروسية، يلحظ ميلها الشديد إلى بناء علاقة شراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة، التي تفرّدت بإدارة الملفات الدولية، بقصد تثبيت هيمنتها الاحادية. كما أن توازن القوى العسكرية بين الطرفين في المجالين التقليدي والنووي، يجعلهما يدركان أن معادلة «الردع المتبادل» لا تزال الفيصل في الميدان العسكري. وهذه نقطة حاسمة تعرفها روسيا جيداً، وبالتالي لا تخشى القوة الأميركية التي تصر على التعاطي معها حتى الآن، كدولة كبرى وليست دولة عظمى، بحسب مقولة بريجنسكي. ولذا تسعى واشنطن جاهدة لتكريس معادلة المنتصر والمهزوم، التي أفرزتها الحرب الباردة، ومنع وريثة الاتحاد السوفياتي من استعادة عافيتها الكاملة.

لكن ما تخشاه روسيا فعلاً، هو الوجه الآخر للحرب الذي أنهك اقتصادها وعرى عيوبه البنيوية، فمهما امتلكت من قوة عسكرية تبقَ قاصرة، إن لم تستند إلى اقتصاد متين، لا تزال تفتقده. ويرى الخبراء العسكريون، أن جوهر الحرب الحديثة آخذٌ بالتغير، وأن مفهوم التأثير الضاغط على القيادة السياسية والعسكرية للخصم عبر عزله وتقويض اقتصاده، يَحُلُّ، تدريجاً، مكان فكرة التدمير الشامل للقوات المعادية. ولكي تستطيع روسيا كسب السباق، لا بد من هيكلة اقتصادها المدني، لزيادة قدراته الإنتاجية ورفع كفاءته التنافسية. وأول شرط لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، هو الإقلاع عن الاعتماد المفرط على قطاع الطاقة الذي تشكل عائداته 52 في المئة من الميزانية العامة، ونحو ربع الناتج القومي. فمن المحال استعادة حضورها كدولة عظمى، واحتفاظها بمكانة عسكرية مُهابة، بالارتكاز على اقتصاد شبه ريعي، تعاني صناعاته المدنية تخلفاً جلياً، مقارنة بالصناعات الغربية. واللافت أن هناك هوة تكنولوجية تزداد اتساعاً بين منتجات الصناعات العسكرية والمدنية الروسية. وهذا يدفعنا للتساؤل، لِمَ لا توضع خبرات التكنولوجيا الذكية المستثمرة بمجالَي العسكرة والفضاء، في خدمة بعض مجالات الصناعة المدنية، كما سبق وفعل الأميركيون طوال النصف الثاني من القرن الماضي، وأدى إلى انطلاق القطاعين العسكري والمدني في خطين شبه متوازيين؟

بما أن الحرب هي «اقتصاد مكثف»، ربما بإمكان روسيا تحويل الهجمة الغربية الشرسة ضدها من محنة إلى فرصة لتحديث بنيان اقتصادٍ، يتناسب مع مستوى قدراتها العسكرية، ويليق ببلاد قارية مترامية الأطراف، تحتل قلب أوراسيا التي حكمت العالم على مدى آلاف السنين. حينذاك، يصبح باستطاعة القيادة الروسية، بالتعاون مع الشريك الصيني، تزعّم حلف دولي ضاق ذرعاً بالاحادية الأميركية، ويتوق لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، أقل اختلالاً وظلماً، وأكثر توازناً وعدالة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى