مقالات

في مسألة الارهاب.. هل تفلت الحكومات الغربية من فعلتها؟ ..د. موسى العزب

     

 

  الصورة في أحد الشوارع الباريسية، لتظاهرة تجمع القيادات الفرنسية مع ملوك ورؤساء دول أصدقاء فرنسا، وقد إلتقطت بعد أسبوع من الإعتداء الدموي المؤسف الذي تعرضت له مجلة شارلي إيدو الساخرة.

        هذه الصورة بالتحديد ليست الأصلية، فقد إختيرت من مجموعة الصور المشابهة، وزُورت من قِبل صحيفة  ” إسرائيلية “، حيث أُدخل على محتوياتها عملية تضليل وأسبغ عليها بعض الخدع البصرية، فأعيد ترتيب محتوياتها بأسلوب يكشف عن تراث ثابت ووقح للإعلام الصهيوني في استخفافه بتزوير الحقائق وإعادة عرض الوقائع بالشكل الملائم للسياسات الصهيونية.

        يظهر الرئيس الفرنسي في وسط الصوة متنافخاً جذلاًن وقد إلتصق كتفه الأيمن مع رئيس مالي، حيث تحتفظ فرنسا لنفسها هناك بغرقة قتالية أعادت البلد بالكامل إلى شكل من الإستعمار الحديث المجزي.

        الإعلام الفرنسي بدوره كان قد إحتكر التغطية الكاملة لما أسماها ” مسيرة الجمهورية “، حاول من خلال ذلك تضخيم أعداد المشاركين، ثم أدخل الجميع في لعبة بصرية، حاولت إظهار المسيرة الرسمية وكأنها مندمجة مع المسيرة الشعبية، علماً بأن كلا المسيرتين سارتا في شارعين مختلفين، ومن خلال لقطة مقربة منخفضة لطليعة الركب، أظهرت الكاميرا المسيرة الرسمية حاشدة ومزدحمة، في حين أظهرت لقطات لكاميرات مستقلة بأن هذا التزاحم لم يتمم أربعة صفوف.

        جاءت الصحيفة ” الإسرائيلية “، وانتزعت عنصر المرأة بالكامل من الصورة لضرورات “الطهارة ” التلمودية. وهكذا أسقطت المستشارة الألمانية من الصورة، فظهر محمود عباس ملتصقاً بالرئيس الفرنسي، ثم مسحت صورة الملكة رانيا من المشهد، فأصبح أوغلو ملاصقاً للملك. تم اخفاء أحد الحراس الخاصين لنتيناهو عن جانبه الأيسر، مما أدى لاختفاء ساكوزي عن الصورة بحيث ظهر رئيس وزارء الصهاينة قريباً من الرئيس المالي، وهكذا أصبح أكثر قرباً من الرئيس الفرنسي.

        تشريفات الرئاسة الفرنسية بدت محرجة داخلياً من إقتحام نتنياهو لهذا الموكب “الديمقراطي “، فحاولت دسَّه مع مرافيقه الأمنيين المستنفرين الأربعة في الصف الثاني، ولكنه وكعادة الصهاينة، تسلل بخسة وتدافع إلى المقدمة، فأزاح رئيسي تشيكيا وبولندا إلى أقصى يمين الصورة، وتبدو المفارقة صادمة عندما يتصدر رئيس حكومة أكبر دولة إرهابية في العالم، تظاهرة تَدّعي رفضها للارهاب، ويكتمل المشهد السوريالي بمشاركة احمد داوود أوغلو رئيس الحكومة التركية التي عملت بنشاط على توفير الدعم والملاذ والممر “الآمن “، لعشرات آلاف الإرهابين طوال أربع سنوات.

        الحكومة الفرنسية سعت بقوة لهذه المسيرة، وقام الرئيس الفرنسي المأزوم الذي تدذت شعبية إلى الحضيض قبيل هذا الحادث، إلى جذب اليمين التقليدي المعارض إلى جانبه في سعيه لاظهار تماسك الجمهورية ” ووحدتها “، أمام ” الخطر الإرهابي “، في شراكة منفعية بين “اليسار” الإشتراكي، واليمين التقليدي، لاستغلال حادث الاعتداء على الصحيفة، في محاولة لتغييب أسباب الصراع الاجتماعي لصالح ديماغوجيا قومية ضد عدو خارجي مفتعل، في حالة طواطؤ للطبقة السياسية الفرنسية بمختلف تلاوينها للتهرب من نقاش سياسي حقيقي يحدد أسباب وعوامل صعود الارهاب، ودور الدولة الفرنسية في تدريب وتسليح الإرهابيين في منطقتنا، وتوفير الغطاء السياسي لهم.

        قام الرئيس شخصياً بتجميع (43) مسؤولاً دولياً على عجل للتغطية على عزلة حكومته وتوجيه، رسالة داخلية إلى الشعب الفرنسي المصدوم والحزين أمام حادثة فريدة من نوعها طالت الصحافة وتقاليد حرية الكلمة والرأي.

        كان هذا الاستعراض ضروري لهولاند لاستكمال طقوس ردّ الإعتبار. قضى ساعات في استقبال الوفود المعزية والعناق الحار والصور التذكارية، ثم سار الجمع في الشارع لمدة قلت عن ساعة قبل ان يتركهم المضيف ليغادروا بهدوء إلى بلدانهم بينما ذهب هو مع وزير خارجيته ووزير دفاعه ليلتقي وزراء الداخلية والأمن الأوروبيين والأمريكيين في الداخلية الفرنسية.

        هذه التظاهرة العريضة لم تسعف فرنسا بتجاوز أزمتها، ولم تخرجها من حالة عدم اليقين بالمستقبل مُحاولات النظام الفرنسي والأوروبي حشر ظاهرة الإرهاب في إطار ديني ثقافي بحت ومنطق صراع الحضارات، وإفراغها من ابعادها السياسية والإجتماعية والاستخباراتية، لن يفلح في وقف العنف وتفريخاته.

        الهجمات الإرهابية التي تمت في فرنسا وبلجيكا لم تأت على يد أجانب، وإنما على يد مواطنين فرنسيين ولدوا وعاشوا في البلاد وشاركوا في الإرهاب الموجه في بعض البلاد العربية.

        هؤلاء نشأوا في أحزمة الفقر حول المدن الأوروبية المرفهة وعاشوا مثل أسرهم على هامش هذه المجتمعات، وعجزوا في الغالب عن الإندماج العادل في مجتمعاتهم، هذه الحالة تتكرر ملايين المرات في معظم دول أوروبا الغربية، في بلدان تعيش ارتدادات أزمة النظام الرأسمالي والركود الإقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر، تتحمل تبعاتها بشكل أساسي الفئات الإجتماعة المهمشة والضعيفة، دون أن يُقدم لهم مشروعاً مستقبيلياً حقيقياً يدعو إلى العدالة، ويفتح نوافذ الأمل في الرفاه والإندماج ويُضيق من فجوة التفاوت الإقتصادي والإجتماعي العميق.

        في حالة فرنسا بالتحديد، ومع وجود رئيس مراوغ ضعيف، وصعود حركة يمين متطرف عنصري، توفرت البيئة لدفع هذه الفئات، لمزيد من العزلة والإحباط وإلى البدائل المؤلمة وتركها للتجنيد في حساب الجماعات المتطرفة التي تتلقفهم وتدعي بأنها تقدم لهم ما كانوا يفتقدونه من الشعور بالانتماء والهوية والغاية من الحياة.

        التطرف الديني الذي أصاب الأوساط الاسلامية في فرنسا، نتج عن حالة تواطؤ شاذة نشأت نتيجة شراكة زبائنية جمعت بين أموال مشيخات النفط وخاصة السعودية والأجهزة الاستخباراتية، جرى بموجبها ” تمكين ” الأيدولوجية الوهابية العنيفة من الدعوة والمراكز الدينية والمساجد، مقابل صفقات تجارية وأسلحة بمليارات الدولارات، ثم قذفت في وجوهنا هذا المسخ الذي سُخِّر لتدمير اوطاننا وكياناتنا، وتخريب نسيجنا الاجتماعي تحت ذرائع الحرية ونشر الديمقراطية. اجواء لم يستفد منها سوى تيارات اليمين المتطرف العنصري والصهيونية وسياساتهم المعادية للمهاجرين، وايضاً المنظمات الارهابية الدينية وغير الدينية.

        لا يجدد بأوروبا الآن أن تستعرض نموذجها الديمقراطي في الشارع، بل عليها أن تُلقي نظرة متفحصة على نفسها وسياساتها الخارجية لتصل إلى فهم واضح لدوافع هذه الموجة الإرهابية. عليها ان تذهب إلى ما هو أبعد من التشبث بمفهوم سلفي قاهر لحرية التعبير والمعالجات الأمنية. لتسأل نفسها كيف يمكن للصحافة ان تبقى وفية لوظيفتها الرئيسية في حماية حق الناس في المعرفة وإلى أي مدى تصل حرية التعبير، وماذا اذا تحولت إلى دعاية سياسية رخيصة؟ وأصبحت طرفاً في الصراعات بدل أن تشكل منصة للمعرفة. على أوروبا أن تكف عن مناكفات المواجهات الثقافية، وان تغادر ذهنية إفتعال انفصام زائف بين الحرية والأمن، عليها أن تقدم معالجات عادلة وكريمة للمهاجرين الأجانب عندها وتتصدى لسياسات التهميش والاقصاء الاقتصادي والاجتماعي.

        سبعة عقود مرت، وما تزال أمريكا وتوابعها في أوروبا، يقومون بتعميم العنف وتهديد السلم العالمي، يطيحون بديمقراطيات منتخبة، ويفرضون الديكتاتوريات، يهاجمون الهند الصينية وأمريكا الوسطى وافريقيا، ويغزوا افغانستان والعراق ويقصفون ليبيا ويفتعلون حروباً اهلية في سوريا والعراق وليبيا، وسط حالات لا تحصى من القمع والخطف والتعذيب الهجمي، كيف يتكلم هؤلاء عن الديمقراطية والأمن مع وجود هذا العدوان ” الإسرائيلي ” الوحشي المستمر.

        على الغرب أن يدرك بأن الصراع في العالم العربي لا يحل من خلال دسائسه وتدخلاته العسكرية.. نحن لا نطلب من اوروبا وأمريكا حل مشكلة التطرف والإرهاب عندنا، هذه مهمة شعوب المنطقة وقواها الحية، ولكن نقول لهم إرفعوا ايديكم عن بلداننا وأوقفوا عدوانكم المتواصل. 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى