الخصخصة: بيع لمقدرات الوطن في غياب الشفافية والشعب يدفع ثمن “الفشل الحكومي”
“تأمل اللجنة أن تتم الاستفادة من البيانات والتحاليل المرفقة من قبل الجهات المختصة في مكافحة الفساد وعلى محورين: المحور الأول محاسبة المتورطين في قضايا الفساد الذين يثبت تورطهم فيها بالبينة وبقرار قضائي”.“وفيما يتعلق بتأثيرات الخصخصة على وضع المالية العامة (الخزينة)، فيتبين من مراجعة وتحليل تطور الإيرادات والنفقات العامة للدولة أنها لم تسفر عن إحداث تغيرات ملحوظة في هيكل الموازنة العامة. فعلى الرغم من استخدام جزء كبير من عوائد التخاصية سداد جزء من مديونية الخزينة، وما لذلك من تأثيرات إيجابية مفترضة على خدمة الدين العام، إلا أن النفقات العامة للدولة استمرت عند مستوياتها المرتفعة التي تتقارب مع مستوياتها قبل الخصخصة”.
من تقرير لجنة تقييم التخاصية/ آذار 2014
جاء توجه الحكومة الأردنية نحو سياسة التخاصية في مطلع الربع الأول من عام 1985 مستمداً من روح كتاب التكليف الملكي للحكومة آنذاك الذي حث على تشجيع القطاع الخاص. ولتنظيم عملية التخاصية في الأردن، قامت الحكومة بإنشاء وحدة خاصة في رئاسة الوزراء في شهر تموز من عام 1996 سُميت بالوحدة التنفيذية للتخاصية.
لماذا الخصخصة: الرؤية الرسمية
وفي عام 2000 تم إصدار قانون التخاصية رقم (25) لسنة 2000، حيث تضمن القانون أحكاماً تنظم عملية التخاصية. ووفقاً للموقع الإلكتروني الرسمي للحكومة، فإن الخصخصة تهدف إلى رفع كفاءة المشروعات الاقتصادية وزيادة إنتاجيتها وقدرتها التنافسية، والإسهام في تشجيع الاستثمارات المحلية والعربية والدولية بتوفير مناخ استثماري جاذب لها، وتحفيز الإدخارات الخاصة وتوجيهها نحو الاستثمار الطويل المدى تعزيزا لسوق رأس المال المحلي والاقتصاد الوطني.
كما تشير الحكومة إلى أن من ضمن أهدافها من التخاصية تخفيف العبء المالي عن الخزينة العامة بوقف التزامها بتقديم المساعدات والقروض للمشاريع المتعثرة والخاسرة. إضافة إلى إدارة المشاريع الاقتصادية بأساليب حديثة بما في ذلك استخدام التقنية المتطورة بهدف تمكين هذه المشاريع من إيجاد أسواق مستقرة وفتح أسواق جديدة من خلال قدرتها على المنافسة في “الأسواق العالمية”.
التخاصية والخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي
الكتوت: النتائج المباشرة لسياسة التخاصية تمثلت في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وفقدان الدولة أهم مقدراتها الاقتصاديةالكاتب والخبير الاقتصادي الأستاذ فهمي الكتوت يرى أن سياسة التخاصية في الأردن جاءت تنفيذاً لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، بفرض برامج التكيف وإعادة الهيكلة انطلاقاً من التوجهات العامة التي تبنتها المراكز الرأسمالية بهدف توسيع السوق الرأسمالي.
ويرى الكتوت أن برامج التخاصية تعد من أهم سياسات العولمة الرأسمالية، بهدف دمج اقتصادات البلدان النامية بالاقتصاد الرأسمالي، وتوفير شروط وآليات جديدة لنهب موارد البلدان النامية، استناداً إلى المدرسة الاقتصادية “النيوكلاسيكية” التي ترى أن الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي “أفضل النظم وقمة التطور”، في حين كشفت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انفجرت في أيلول 2008 فشل هذه السياسات الاقتصادية، مما اضطر الولايات المتحدة وعدد من دول الرأسمالية بالتراجع جزئياً عن هذه السياسات بشراء الدولة المؤسسات المتعثرة الآيلة للسقوط.
ويكشف الأستاذ الكتوت أن سياسة التخاصية لم تأت في الأردن تلبية لحاجة موضوعية للاقتصاد الأردني، وأن تبريرات السلطة لفرض التخاصية “بتعثر بعض المؤسسات ومواجهة الترهل الإداري وجذب الاستثمارات الأجنبية”، ليس في مكانها، وكأن ملكية المؤسسة تحول دون تحقيق استقلال مالي وإداري للمؤسسة المملوكة للدولة، وتحقيق الشفافية ومكافحة الفساد، أو الاستفادة من خبرات أجنبية في إدارة المؤسسة مع الاحتفاظ بملكية الأصول للدولة، كما يمكن إدخال شريك استراتيجي في حالات معينة تقتضي الاستعانة بخبرات تقنية عالية، وبالتأكيد هذه الحالات لا تنطبق على بروناي التي اشترت ما يعادل 37% من مجموع أسهم شركة الفوسفات بسعر أقل ما يقال عنه أنه غير عادل. ولا في الشركة الكندية التي اشترت شركة البوتاس ولم تسهم في تطوير إنتاج أملاح ومعادن البحر الميت كما تفعل لدى العدو الصهيوني غرب النهر.
فشل النموذج الأردني في التخاصية
ويرى الأستاذ الكتوت أن السياسات الاقتصادية الحكومية المتعلقة بالتخاصية، لم تسهم بحال من الأحوال في جذب وتوسيع الاستثمار، فقد استبدلت ملكية الشركات الأردنية من ملكية عامة للدولة إلى ملكية رأس المال الأجنبي، ولم يجر الاستفادة من أموال التخاصية في أية استثمارات جديدة، والقول أن أموال التخاصية تم الاستفادة منها بتسديد جانب من ديون نادي باريس، غير مقبول، كون الصفقة خاسرة بكل المقاييس، والسبب في ذلك أن المديونية العامة ارتفعت في نهاية عام 2008 “عام الصفقة”، بدلا من تخفيضها، عدا عن تبديد عائدات التخاصية.
ومع اتساع الإجراءات الليبرالية لم تعد السلطة التنفيذية قادرة على صياغة مواقف مستقلة عن برامج وتوجهات صندوق النقد والبنك الدوليين، وفق ما يؤكد الخبير الاقتصادي فهمي الكتوت. وهو الأمر الذي أسهم بتوسيع شروط التبعية، واقترنت هذه الإجراءات باتساع دور طبقة جديدة من السماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية من الفئات الطفيلية وناهبي أموال الشعب، الذين استغلوا مواقعهم بتحقيق أهداف غير مشروعة، محققة ثراءً فاحشاً نتيجة الدخول بصفقات مريبة عرَّضت الاقتصاد الوطني لأفدح الخسائر، وارتبطت مصالحها الطبقية بمصالح الاحتكارات الرأسمالية المتعددة الجنسيات، وقد رافق هذه السياسات تشديد القبضة الأمنية وإجهاض الانفتاح السياسي الذي جاء بعد هبة نيسان 1989، الأمر الذي يتناقض مع الادعاءات الليبرالية بتلازم اقتصاد السوق والديمقراطية.
لجنة تقييم التخاصية و”كشف المستور”
شاب عملية الخصخصة التي أطلقتها الحكومة وطالت السواد الأعظم من مؤسسات الدولة من مياه واتصالات وبوتاس وكهرباء وميناء العقبة وغيرها إضافة إلى بيع أسهم الحكومة في معظم الشركات المساهمة، شاب هذه العملية التي انطلقت مع بداية الألفية الثالثة، الكثير من الخلل والعيوب في الإجراءات والتنفيذ.
ومع بداية الحراك في عام 2011، كثر الحديث عن المخالفات التي رافقت عملية بيع مقدرات الدولة، وانتشرت شائعات وتسريبات عن خلل في بيع مؤسسة هنا، وفساد في بيع مؤسسة هناك. ونتيجة للضغوط التي تعرضت لها الحكومة نتيجة هذه التسريبات، فقد تم تشكيل لجنة تقييم التخاصية التي قدمت تقريراً تفصيلياً، كشف عن خلل كبير في إجراءات بيع مؤسسات كبرى كانت شركة الفوسفات مثالاً صارخاً عليها، إضافة إلى بيع حقوق الرخصة الثالثة للاتصالات (شركة أمنية).
ما هي الخصخصة:
هنالك تعاريف كثيرة للخصخصة تتعدد بتعدد معرفيها، وسنكتفي بإيراد أهم تعريفين هما:
_ الخصخصة أو التخاصية هو مصطلح اقتصادي حديث أفرزته التطورات الاقتصادية التي حدثت في دول العالم قاطبة، وتعني بمعناها الواسع تحويل الموجودات أو الخدمات من القطاع العام إلى المبادرات الخاصة والأسواق التنافسية العاملة في القطاع الخاص.
_ وفي تعريف ضيق: تعني الخصخصة تحويل منشأة الأعمال من ملكية وإدارة القطاع العام إلى القطاع الخاص عن طريق بيع الأصول.
_ كما يمكن تعريفها بأنها انتقال عمل ما كلياً أو جزئياً من القطاع العام إلى القطاع الخاص بما ينطوي عليه ذلك من اعتماد متزايد على فعاليات القطاع الخاص. وتمثل الخصخصة في مفهومها المتطرف جهداً واعياً من أجل تقليص الجهاز الحكومي ومن أجل تضييق حدود مسؤولية الدولة.
ومورست الخصخصة على نطاق واسع خلال النصف الثاني من القرن العشرين في معظم دول العالم؛ بحيث أصبحت تتحول منشآت الخدمات على وجه الخصوص من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
ويعتبر الكاتب والباحث الاقتصادي فهمي الكتوت أنه ورغم اعتراضه على سياسة التخاصية من حيث المبدأ، إلا أنه يؤكد أن الإجراءات التي اتبعت في تنفيذ سياسة التخاصية لا تخلو من الفساد المالي والإداري والمخالفات القانونية والدستورية، فإن المادة (117) من الدستور الأردني تشترط لنفاذ العقود موافقة مجلس الأمة، التي تنص على أن “كل امتياز يعطى لمنح أي حق يتعلق باستثمار المناجم أو المعادن أو المرافق العامة يجب أن يصدق عليه بقانون”.
وعلى الرغم من مضي ثلاث سنوات على إطلاق تقرير لجنة تقييم التخاصية لتقريرها وبحضور رئيس الوزراء، وتوصية اللجنة بمتابعة الأخطاء التي وقعت في عملية التخاصية، ومحاسبة المسؤولين عنها، إلا أن أي خطوة حقيقية لمتابعة هذا الملف الخطير لم تحدث. بل على العكس من ذلك فقد تم وضع العراقيل أمام أية محاولة لفتح هذه المخالفات.
ويؤكد النائب السابق الدكتور أحمد الشقران أنه تم تغييب مجلس النواب عن اتفاقيات الخصخصة، ففي قضية الفوسفات وفي الوقت الذي طلب فيه المجلس معرفة ما يجري، كانت الحكومة قد باعت فعلاً الشركة، وضربت بعرض الحائط الدستور الأردني الذي ينص صراحةً على ضرورة عرض أي اتفاقية تنص على امتياز على مجلس النواب لإقرارها بقانون، وأيد ذلك ديوان التشريع الذي أقر صراحة في رأيه بأن اتفاقية بيع شركة الفوسفات كانت مخالفة للدستور وكان يجب أن تمر على مجلس النواب لمناقشتها.
ماذا جنى الأردن من التخاصية؟!
وفقاً لتقرير لجنة تقييم التخاصية، لم تستطع الخصخصة في معظم المؤسسات الوطنية التي تم استهدافها أن تحقق الأهداف التي وضعتها الحكومة لخصخصتها. فقد كشف التقرير عن فشل معظم صفقات الخصخصة من تحقيق عوائد للخزينة بالحجم المطلوب أو المتوقع.
بعض أشكال وأساليب الخصخصة:
1_ التعاقد مع منشآت القطاع الخاص: لم يعد هذا الأسلوب مجرد اتجاه إنما تمت تجربته من خلال سنوات من الممارسة الحية، وغدا شكلاً معتمداً، ويتضمن الأسلوب إتاحة المزايدة المفتوحة والتنافسية للحصول على العقود من الدولة الراغبة في التجديد الدوري، إلى جانب التدوين الدقيق لشروطها لكي تشتمل على لغة واضحة مصحوبة بالضمانات المناسبة، والرقابة الفاعلة للأداء، للتأكد من أن العقد سوف يتم تنفيذه كما هو متوقع إلى جانب العديد من المزايا والإيجابيات الأخرى.
2_ التجيير: يعني خروج الدولة من النشاط الاقتصادي موضوع البحث، وترك الفرص لمنشآت القطاع الخاص لأن تؤدي دورها في تقديم السلع والخدمات، أي أن الدولة تتيح للمستفيدين من السلع والخدمات (التي كانت تقدمها الدولة في السابق)، لأن يختاروا الحصول عليها من مجهزين يعملون في القطاع الخاص وفي إطار المنافسة المفتوحة.
3_ إهداء (أو بيع) موجودات مادية محددة (معدات أو مبان..) إلى منشآت القطاع الخاص.
4_ إصدار أوامر شراء: يتم تنفيذها في ميدان السوق، بدلاً من تقديم السلع والخدمات من قبل الجهاز الحكومي، مع إعطاء الحاصلين على هذه الأوامر الحق في ممارستها والحصول على السلع والخدمات من المنشآت الخاصة التي يختارونها.
5_ تحويل المنشآت الحكومة (العامة) إلى شركات مساهمة وبيع الأسهم فيها للقطاع الخاص.
6_ إنهاء العمل بنظام “الدعم” وكل الإجراءات والتعليمات المصاحبة لها، وتحرير النشاط الاقتصادي موضوع البحث باتجاه الإنتاج للسوق وليس للدولة.
ومن جانب المديونية العامة، يشير التقرير إلى أن الحكومة شرعت باستخدام غالبية عوائد التخاصية في إطفاء جانب من الدين الخارجي للمملكة، وهو ما أفضى بالتالي إلى انخفاض حجم مديونيتها الخارجية. وكان من الممكن أن يكون ذلك إنجازاً مهماً، لولا انه لم يكن مقترناً بزيادة كبيرة في الإنفاق والتحول إلى الاقتراض الداخلي بدلاً من الخارجي، وعلى أهمية الفرق بين الاقتراض الخارجي والداخلي، إلا أن نسبة المديونية إلى الناتج المحلي عادت إلى الارتفاع بسبب تنامي الإنفاق الحكومي.
ويلفت الأستاذ فهمي الكتوت إلى أن النتائج المباشرة لسياسة التخاصية تمثلت في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، بفقدان الدولة أهم مقدراتها الاقتصادية، وتحميل الطبقة العاملة والشرائح الوسطى الجزء الأعظم من تكلفة هذه السياسات، بعد إقدام الشركات المتعددة الجنسيات على فصل أعداد واسعة من العمال والمهندسين الأردنيين، بهدف تشديد الاستغلال، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة. كما استعاضت الخزينة عن إيرادات المشاريع المخصخصة، بزيادة الضرائب غير المباشرة على المواطنين حيث ارتفع العبء الضريبي بشكل ملموس، ما أدى إلى اتساع الفجوة الطبقية في المجتمع الأردني، فقد ارتفعت نسبة الإيرادات الضريبية من الإيرادات المحلية من 52% في بداية تسعينات القرن الماضي لتصبح حالياً 70%.
وفي المحصلة، يؤكد تقرير لجنة تقييم التخاصية أن التجربة أثبتت أن الخصخصة لا يمكن أن تحدث تغييرات مستدامة في هيكلة الاقتصاد الوطني ما لم تترافق مع سياسات وبرامج هيكلية متوسطة وطويلة الأمد باتجاه تعزيز الاقتصاد الإنتاجي وتنويع مصادر الطاقة وضبط الإنفاق الحكومي.
ويبدو –وفق الكاتب فهمي الكتوت- أن الشعب الأردني وحده من يدفع ثمن السياسات الحكومية الفاشلة، والتي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة وارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب، واتساع مساحات الفقر.