مقالات

في ظلال “كالديران” الفارسية ومرج دابق العثمانية

لا يختلف إثنان على أن إيران وتركيا هما اليوم من اللاعبين الإقليميين الكبار في المنطقة، بل إنهما أكثر هؤلاء اللاعبين أهمية بالنظر إلى أزمة العدو الصهيوني منذ تراجعه أمام حزب الله في تموز 2006. وبالنظر إلى ما تعرّضت له المراكز الحضرية العربية الأساسية (القاهرة ودمشق وبغداد) ومع موجة الانبعاثات الإمبراطورية شرقاً وجنوباً لروسيا وتركيا وإيران، فإن ظلال الماضي تحوم على الحاضر على نحو أو آخر.

لعلّ أخطر هذه الظلال، ما شهدته المنطقة في القرن السادس عشر عبر معركتين قرّرتا مصيرها لقرون عدّة، وهما معركة كالديران، (1514) ومعركة مرج دابق (1516) فقد تمكّن الأتراك من خلال السُلالة الثانية لهم بعد السلاجقة، وهي السُلالة العثمانية من إخراج العرب من التاريخ وتطويق الإيرانيين في رُقعة محدّدة …

وإذا كانت معركة (مرج دابق) التي وضعت العرب تحت ظلام العثمانيين عدّة قرون، حاضرة في الأذهان والمُقاربات، فقد كانت عملياً نتيجة معركة كالديران وهزيمة الإيرانيين فيها، فماذا عنها:

  1. وقعت المعركة بين عائلتين، الأولى كانت تحكم آسيا الصغرى والثانية كانت تحكم بلاد فارس، وهما عائلة آل عثمان والثانية العائلة الصفوية.
  2. إن العائلتين من أصل تركي، بل أن الصفويين يعتبرون أنفسهم أكثر نقاء في نَسبَهم التركي إلى صفيّ الدين الطوسي من أذربيجان، ومن إسم (صفيّ الدين) عُرفوا بالصفويين.
  3. مقابل تشيّع اسماعيل الصفوي، فإن خصمه العثماني سليم الأول، لم يكن سنّياً بالمعنى الشائع، فهو كما عموم (الإسلام التركي آنذاك) كان خليطاً من أفكار أبو حنيفة (الذي كان يُجاهر بعلاقته بالإمام جعفر الصادق، مؤسّس الطريقة الإثني عشرية الشيعية) ومن الأفكار الصوفية وخاصة طريقة الدراويش ومنها البكتاشية (أيديولوجيا الإنكشارية في الجيش العثماني)، بل أن السلطان سليم الأول عُرِف بملاحقته للحنابلة (أنصار الإمام أحمد بن حنبل) وبإعجابه بإبن عربي المُتصوّف الكبير المعروف.
  4. إن مذهب ولاية الفقيه الذي تبنّاه إسماعيل الصفوي كان من بنات أفكار شيعي عربي هو الشيخ اللبناني علي الكركي الذي تعود أصوله إلى قبائل عاملة التي هربت من الأردن بعد ملاحقة صلاح الدين الأيوبي للفاطميين.
  5. جرت المعركة بين جيشين غير مُتكافئين لا في العدّة ولا في العتاد، فقد كان الجيش العثماني مزوّداً بالمدفعية وينوف عديده على ال 150 ألف مقاتل مدرّب، مقابل حوالى خمسين ألفاً في جيش إسماعيل الصفوي، معظمهم من القوزال باشي (أتراك من أذربيجان)
  6. بخلاف ما أعلن من حرص مُتبادَل على (صحيح الدين) عند الطرفين كعنوان للمعركة فقد جرت للسيطرة على طُرق التجارة وخاصة تجارة الحرير والعبيد.

ويُشار هنا إلى أن الصِراع على تجارة العبيد كان من أسباب الصِراع اللاحق بين الاستعمار البريطاني وبين ما عُرِف بالثورة المهدية في السودان، ومما يؤكّد ذلك بالنسبة للسلطان سليم الأول الدور الذي لعبه العبيد وخاصة الخصيان في البلاط العثماني لاحقاً.

  1. في خلفيّة هذه المعركة والجانب التجاري فيها لا بدّ من الانتباه إلى عنصرين هما:

الأول، دعم بل تحريض تُجّار البندقية وجنوى للسلطان سليم الأول مقابل دعم البرتغاليين لإسماعيل الصفوي.

الثاني، تحوّل طرق التجارة الدولية نفسها إلى محورين جديدين: رأس الرجاء الصالح جنوباً، ومحور قزوين – الأسود شمالاً، ما يُفسّر أيضاً أفول دولة المماليك في مصر مقابل دولة العثمانيين في آسيا الصُغرى.

  1. إن هذه المعركة التي يحتفي بها بعض العرب بإسقاط على ما يجري، هي التي أسّست أيضاً لسقوط العرب تحت سيطرة سلاطين آل عثمان طيلة قرون كاملة بعد معركة كالديران بسنتين.
  2. وفي ما يخصّ إيران الحالية، ومع التطوّر الذي جرى على ميزان القوى بين البلدين، فإن معركة كالجيران أو كالديران، أكثر من ذاكرة، وتؤشّر إلى أن إيران، ربما ترى في المحاولات التركية في سوريا والعراق ظلالاً لاستعادة مناخات هذه المعركة بصورة أو بأخرى. وربما تذهب أكثر من ذلك في ثأر استراتيجي مستند إلى اختلال ميزان القوى الإقليمي والدولي لمصلحتها، بالإضافة إلى الإتفاق النووي، ولعلاقتها القوية مع الدول الكبرى في البريكس (روسيا والصين).

ومن المُفارقات الأخرى ذات الصلة، هي الظلال الروسية المُبكرة على الانبعاثات الإمبراطورية المذكورة لكل من أنقرة وطهران..

فلولا الدعم العسكري الذي قدّمته روسيا (بعد الثورة الاشتراكية فيها) لمصطفى كمال أتاتورك لما تمكّن الأتراك من ترميم جسد ما تبقّى لهم بعد الحرب العالمية الأولى واستبدال اتفاقية “سيفر” باتفاقية لوزان التي كرّست السيطرة التركية على أراض ٍوأمم عديدة شرق تركيا وجنوبها وغربها.

كما إن العائلة التي حكمت إيران بعد سقوط دولة القاجار في الحرب العالمية الأولى، عائلة تنتمي إلى الحرس الأبيض  القيصري الروسي…

وبالمجمل، فإن ظلال مرج دابق العربية الناجمة عن ظلال كالديران الإيرانية، تحتاج إلى التمعّن وهي تعود من جديد وتستدعي البحث عن قواسم عربية – إيرانية مشتركة قد لا تسمح للتاريخ بأن يُعيد نفسه.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى