ثقافة وأدب

رِحلة أبي سعد

عبرت القافلة صحراءً صماء بلا وجهٍ واضح ..
رجالاً ونساءاً وشيوخاً أنصاف عُراة بشعرٍ أشيبٍ وعُصي تُسندهم في السير والوقوف.
قائد الركب كان (سُفيان)، شابٌ بعينين لامعتين وشاربٍ كثيف، تُقوس ظهره إثر اماسي اللجوء والنوم في العراء.
كُل قرارٍ كان يوشك على اتخاذه كان بمثابة مُقامرةٍ على حياة القافلة كاملة.
لا مَجال للخطأ.. كان يعلم ذلك جيداً
دليل القافلة في الصَحراء كان رجلاً كهلاً يُكنى بأبي سعد، قال أنها كنية منسوبة لطيرٍ أسودٍ يُحلق في طريق هجرته فوق الأرياف، وأضاف مُستطرداً: لا أبناء لدي.. لَم أتزوج.
**
قال سُفيان: في الغدِ سنُكمل سيرنا، استسلم الأطفال للنوم، والمُسنون راحوا يُصلون خلف النساء المُتحلقات يتشاكين ويغتبن.
بدا الامرُ عجيباً كيف لا يستغرق بناء مُجتمع قريةٍ كاملاً في الكوارث والمآسي أكثر من دقائق.
في الفجر انطلقوا، كان سُفيان يسير في مُقدمة القافلة، عواصف الغُبار كانت تَسد الأفق، والكُثبان بدأت تَكبر وتزدادُ هيئتها قُبحاً.
اقتربت عجوزٌ من سُفيان، قالت له: أبو سعد، هذا الكافر القذر، سوف يقودنا إلى حتفنا، لا تُصدقه، كانت زوجته جارة لإبنة خالتي، لقد قتلها هي وابنها، قدمهما قرابين للشيطان.
قبل أن يتسنى لسُفيان أن يُفكر فيما سمعه، صاحت بالعجوز ابنتها: قلبت الدنيا عليكي، وين كنتي؟! ..
اعتذرت من سُفيان وقالت ان أُمها امرأة خرفة، وأعربت عن املها ان لا تكون قد تحدثت في امرٍ اثار انزعاجه، (لا بأس) قال سُفيان..
**
تراءى لُسفيان على مسافة يسيرة عدداً من الفرسان، حياهم وسألهم عن هويتهم بعد أن عرف بنفسه وقافلته، فأخبروه انهم من حراسات عزيز مِصر، وانهم هربوا بالعزيز من بلاده بعد انقلاب حاشيته عليه، سَمع العزيز الحديث فجاء وسأل سُفيان عن وِجهتهم فتجاهل سُفيان السؤال قائلاً: لكم أن تُرافقونا، لا ندري اين سنتوقف ونربط دوابنا.
لَم يُلاحِظ احدٌ موت ابي سعدٍ الا حين بدأت جُثته بالتعفن، ربط جسده بحماره وقطع شريان يده، مات وهو يمتطي حماره .
شاع الخبر بين المُسافرين، سأل العزيزُ سُفيان عن المُنتحر فأعطاه التفاصيل، ذهب ليتحقق بنفسه فَصُدم حين وجده دليلهم الصحراوي نفسه، والذي سرق زادهم ومالهم وتركهم للموت في صحراء النقب.
تذكر سُفيان رواية العجوز الخرفة رُغم أنها تتباين ورواية العزيز.
أما العزيز فبكى ولطم كأرملة، حارسه قال لسفيان أنها نوبةٌ تُباغته حين يشعر بأن دوره في الحياة يتلخص في أن يكون مهزوماً دائماً، مهزوماً إلى الأبد، في أبسط صفاته وتفاصيل حياته وشخصه.
**
بعد مسير أيام صادفت القافلة رجالاً قالوا ان دليلهم تركهم مُنذ أربعين عاماً في الصحراء وهرب، وقالوا أنه رجلُ شامي إسمه أبو سعد.
كما ومرت القافلة في طريقها بأنقاض قرية ورماد خيامٍ قال أهلها أن أبا سعدٍ أحرقها حين رفضوا انتخابه مُختاراً من جديد، وبامرأة حطم أبو سعدٍ آنية الفخار التي تبيعها، وبصبية يشتمون رجلاً كهلاً عاب زورقهم النهري وهرب.
كما ومروا بقومٍ مُسخوا لحجارة صعب عليهم ذكر صلة لأبي سعد بالموضوع.
أبو سعد في تلك اللحظة كان يؤم المصلين استسقاءاً في صحراء الأنبار..!

اظهر المزيد

نداء الوطن

محرر موقع حزب الوحدة الشعبية… المزيد »
زر الذهاب إلى الأعلى