أحجية “الدولة المدنية” بين الوهم والواقع
طغى على ساحة النقاش السياسي في المجتمع مؤخراً مصطلح “الدولة المدنية”، وقد رافقها كثير من البهرجة والتضخيم وكأننا نعود من جديد إلى جدل الهوية والدولة، وقد أضفت الورقة السادسة التي قدمها الملك للنقاش العام، شيئاً من الفضول والاهتمام بهذه الفكرة وسُبر أبعادها.
لقد شهد تحديث الدولة الوطنية ومفاهيم “المدنية” و”العلمانية”، موجات متوالية من الجدل منذ تبلور الكيانات العربية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية دون أن تحدث مثل هذه الإرهاصات التأثير الحقيقي في بنى المجتمعات وأدوارها، وما نشهده حالياً من هشاشة في تجارب الدولة الوطنية والتفسخ المتسارع للكيانات، وتعميم الفوضى والانقسام، إلا إحدى نتائج المقاربات الخاطئة والفهم التسطيحي للفكرة، ولم تولِ التجربة الأردنية إلا اهتماماً قليلاً بهذا الشأن، بعد أن أُنشأ نظام ملكي بمشروعية تراثية دينية عبر إقامة علاقة لصيقة مع بريطانيا، ما لبثت أن تحولت إلى الولايات المتحدة في وقت متأخر.
دون تهيئة مسبقة، أُعيدت فكرة “الدولة المدنية” إلى الرأي العام قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة بواسطة كُتّاب ونخب محسوبة على التيار الإصلاحي الليبرالي في السلطة وتخومها، وسرعان ما تم تبنيه وتسويقه دون تأصيل من قبل قائمة انتخابية تجمعت من أوساط مختلفة لأغراض انتخابية، كما لوحظ بأن التيار الديني المنبثق عن الاخوان وتفرعاتهم قد تخلى عن شعاره الناظم “الإسلام هو الحل” قبيل الانتخابات البرلمانية، ليشكل قوائم تحمل بعض التنوع المجتمعي وتأتلف تحت راية “الإصلاح”، ثم ما لبثت بعض نخب هذا التيار أن طرحت فكرة الدولة المدنية كمؤشر على الرغبة بمغادرة أطروحاتهم السابقة، والتبشير بإجراء مراجعة فكرية سياسية داخلية ما تزال تلقى معارضة داخلية قوية.
بالعودة إلى الوثائق الشحيحة التي صدرت عن الجهتين، وضحالة المقاربات التي وسمت أطروحاتهما، نلحظ بأن الدافع الرئيسي وراء هذه “التحولات”، قد جاء في إطار التكيف مع رؤية وشروط النظام وباعتبار أن هذا المسرب هو الوحيد المتوفر للولوج إلى المشاركة بالسلطة، وإذا كان الاخوان قد دفعهم لتبني هذا الخيار فشل تجربتهم في مصر، و”نجاح” التجربة المغربية الاخوانية، فإن الآخرين والذين التف حولهم دعاة العلمانية، قد حُملوا على منصات وسطاء السلطة من النيوليبرال، وهكذا وبسبب التسرع لكسب السوق، وجدنا أنفسنا أمام طرح غير ناضج وفضفاض تم نفخه بكمية من المعاني والمفاهيم المتنافرة وخارج السياق التاريخي لتطور بنى المجتمع الأردني.
في الورقة الملكية يكاد مصطلح الدولة المدنية أن يرادف شعار “دولة القانون والمؤسسات” الذي يعاد التأكيد عليه منذ خمسة عقود دون أن نلحظ أي إزاحة إيجابية في مسار المجتمع والدولة، وعند البحث عن مواصفات هذه الدولة المرجوة، نلحظ تشابهاً كبيراً في تعريفها عند الجميع كدولة تقوم على الدستور وسيادة القانون والعدالة وصيانة الحريات العامة، وترتكز على المواطنة وتقبل بالتعددية! كل هذا جيد، ألم نتبنى جميعاً هذه الوصفة دون أن نحدث الفارق الضروري؟ يزيد (العلمانيون الليبراليون) على تعريفهم: بأن دولتهم المدنية تحقق المساواة لكافة المواطنين ذكوراً أم إناثاً مهما كانت أصولهم ومنابتهم أو دينهم مع ضمان تمثيل عادل للمرأة في مناصب الدولة!! وفي الجانب الاقتصادي يطرح هؤلاء نقطة وحيدة يؤكدون فيها على “أهمية إقامة شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص” وكأنهم بذلك يبعدون عن أنفسهم تهمة رفض الخصخصة، وفي وثيقتهم التي أعلنوها لا يوجد كلام عن دور الأردن القومي والموقف من معاهدة وادي عربة، ولا أي إشارة عن خطورة التبعية السياسية والاقتصادية أو الهوية الاقتصادية واتجاهات الصراع الاجتماعي. لا سياسة في هذه الأطروحات بل يراوح الجميع في تعداد قيم إصلاحية ومعان وطنية عامة!
يزداد الغموض في هوية الدولة المدنية المنشودة عندما تُطرح الورقة الملكية في فترة نعيش فيها تهاوناً في تطبيق القانون على شخصيات نافذة، وتنازلاً لمؤسسات الدولة عن سلطاتها لصالح قوى اجتماعية، وإعاقة عملية الإصلاح، والتغول على السلطة التشريعية، فيتم تشكيل الحكومة حتى قبل انعقاد مجلس النواب والتشاور معه، وتوقيع صفقة الغاز مع “إسرائيل” في ظل غياب المؤسسة التشريعية وضد إرادة المجتمع، وتنتزع ملفات من اختصاص الحكومة لتسلم إلى لجان خاصة من خارج ولاية الحكومة وآليات المراقبة والمحاسبة.
لا شأن “للمدنية” بطابع الدولة الذي يعكس بالأساس شكل العلاقات الاقتصادية السائدة، والدولة اجتماعياً هي شخصية قانونية معنوية تعبر عن ذاتها بدستورها وقوانينها الصادرة عن الشعب عبر ممثليه الحقيقيين الذين يتم انتخابهم بنزاهة وعدالة، وبالتالي الدولة ليست مدنية أو عسكرية، وهويتها هي هوية أغلبية مواطنيها وليست حالة ذهنية فوقية. الطرح القيمي الحقوقي “للمدنية” ليس له علاقة بطابع الدولة السائدة، وطرح الشعار دون محتوى اقتصادي وطني اجتماعي، ليس سوى إنكاراً لأسباب الصراع ووضع المضطهَد والمضطهِد على قدم المساواة وانحيازاً لرأس المال باسم القانون والسلم الاجتماعي، وتعميق الخلط بين السلطة والدولة وإقصاء مؤسسات المجتمع المدني.
الأولوية لا تعطى للانشغال في تمحيص شعارات العلمانية والمدنية والفروقات بينهما، بل في توفير الإنجازات المجتمعية التي تحتاج جهداً واعياً لتحديد سمات البُنى الاجتماعية والثقافية والسياسية.. كيف نربط التاريخ بالحاضر، ونتخلص من الجهل والخرافة والعصبيات والصور النمطية والعلاقات الرعوية التقليدية، كيف نعمل على خلخلة أنماط الإنتاج وعلاقاته الراكدة وتطوير أدوار البُنى المؤسسية المسؤولة عن إنتاج هذه الأدوار بدءاً من العائلة والعشيرة والمؤسسة الدينية مروراً بالمؤسسات الرسمية.
سؤال المرحلة الأهم هو سؤال الدولة الوطنية الديموقراطية في فترة تفكك الدولة وتراجع دورها بسبب حالة التبعية وهمجية الرأسمالية العالمية وهيمنة المؤسسات المالية والنقدية على الدول وضرب سيادتها وتحويل حكوماتها إلى إدارات ذاتية.
حجر الرحى في الدولة الوطنية هو المواطن، والمساواة وتكافؤ الفرص خصوصاً في التعليم والصحة والتنقل والحريات، وأيضاً العدالة الاجتماعية وليس العدالة الحقوقية فقط.
الدولة ليست حالة ستاتيكية مطلقة، بل نواظم متغيرة بحسب تغير وتطور الواقع الاقتصادي وانعكاساته على القوى الطبقية المهيمنة والتحالف المسيطر الذي يضع القوانين بما يتلائم مع استمرار إدامة نفوذه، والسلطة العليا ما هي إلا نتاج الصراع الاجتماعي في لحظة معينة. و”الدولة المدنية” بطرحها الليبرالي أو الاخواني، لن تحل المشكلات الحقيقية مثل الفقر والبطالة والمديونية والعجز والتبعية، ولن تتحرك لمواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني وتحدياته، فالنظام الليبرالي لا يخلق وظائف، وإنما يسعى لإشباع الرغبات، والنظام التبعي لا يبني دولة، وإنما يكتفي بإدارة مصالح المركز والمحيط.
لن نختلف على أهمية الدولة المدنية أو حتى العلمانية، على أن لا يجرّنا النقاش لمربعات تجاوزناها منذ زمن، بينما نكتشف يومياً عمق فقرنا الاجتماعي والثقافي للدولة الوطنية ومتطلباتها. بالمعنى العام، فإن جدل القيم الكبرى هام وصحي، لكن مضمون الأفكار وتفاعلها وطرح الشعارات يجب أن يتجاوز مفهوم الدولة القطرية بذاتها، إلى أنحاء الدولة الوطنية الديموقراطية المرتبطة بمشروع الأمة الوحدوي التحرري.