الدولة الأردنية وسياسة الجباية : الجميع في خدمة الفساد والبيروقراطية المستبدة / د. لبيب قمحاوي
هناك حالة من الصَرَعْ تـُميـِّز سلوك الدولة الأردنية في محاولاتها المتواصلة والمحمومة لجباية الأموال من الشعب الأردني الذي بات يـَئـِنْ تحت ثقل سياسة الجباية التي تفرضها عليه الحكومة وأمانة العاصمة وأجهزة الـدولة المختلفة و مؤسساتها العامة مثل الكهرباء والمياه بعد أن قامت الحكومات المتعاقبة ببيع تلك المؤسسات الخدمية الإستراتيجية وأصول أردنية أخرى عديدة وهامة بمبالغ قيمتها الحقيقية غير معروفة حتى الآن وتم التصرف بعوائدها بطرق غير معروفة أيضاً .
لم يبقى لدى الدولة الأردنية من مصادر دخل حقيقية سوى ما تقترضه من الخارج والداخل أو ما تفرضه على الشعب من ضرائب مباشرة وغير مباشرة ، خفية ومعلنة ، أو ما قد يَردْها من مساعدات أصبح العديد من واهبيها يحرصون على وضع ضوابط على كيفيه التصرف بها منعاً لإساءة إستعمالها أو سرقتها .
الصفة الملازمة للسلوك الإقتصادي الأردني أو أي قرار إقتصادي أردني هي إما التخبط أو الفساد أو الجباية أو الإستدانة . وهذه الصفات تعكس إنحداراً مستمراً وبشكل متفاقم في المسار الإقتصادي وليس سقطة مفاجئة أو خطأً جسيماً عارضاً ، مما يوحي بأن ذلك المسار الإقتصادي كان إما نتيجة تخطيط ما أو سياسات ما مثل التوجه الذي يشهده الأردن الآن نحو إستعمال العذر الإقتصادي لتمرير سياسات لا تحظى بقبول شعبي مثل إتفاقية الغاز مع إسرائيل وهي إتفاقية سياسية بعنوان إقتصادي .
تدور الشكوك من قبل الكثيرين حول إذا ما كان ذلك الإنحدار مقصوداً بهدف إفقار الشعب الأردني وحصر إهتماماته في لقمة العيش أو إذا ما كان نتيجة حتمية للفساد الكبير والتخبط الإقتصادي الذي أوصـل الدولـة إلى حافة الإفلاس نتيجة بيع معظم ثرواتها ومشاريعها الوطنية الكبرى والعبث بالعائد لصالح مؤسسة الفساد الكبير مما لم يُبقِ ِ أمام الدولة من وسيلة لتعزيز مواردها سوى الإنقضاض بشكل شرس ومتواصل على جيب المواطن الأردني .
من هو صاحب المصلحة في إفقار الشعب الأردني وتحويله إلى شعب من الفقراء والمعوزين المتواجدين في كل ركن وزاوية بإنتظار هذه المكرمة أو تلك ؟؟
من البديهي أن إفقار المواطن الأردني سوف يؤدي إلى تقليص قدرته على الإنفاق مما يخلق حالة من الركود الإقتصادي في بلد تعتمد فيه موارد الكثيرين على إنفاق الآخرين ضمن دورة إقتصادية ضيقة لا تحتمل الخلل أو التباطؤ . ولكن الأمور لم تقف عند ذلك الحد ، فقد حوﱠلت سياسة الجباية والإفقار العديد من الموظفين إلى مرتشين وقامت بالتالي بتوسيع قاعدة مؤسسة الفساد إلى الحد الذي أصبحت فيه بعض الوظائف وسيلة للتكسب غير المشروع كون الراتب الصافي لم يعد يكفي لسد متطلبات الحياة للأسرة العادية . وهذا التطور شَكّلَ نقلة سلبية في مفاهيم المجتمع الأردني الذي أصبح الآن يقبل بوجود الرشوة والفساد ويتعامل معهما بإعتبارهما أمراً واقعاً في حين كان يَعـْتـَبـِر مثل هذه المفاهيم قبل عقود قليلة مدعاة للخزي والعار والتجريم .
مؤسسة الفساد الكبير في الأردن التي إعتمدت على سلب موجودات الدولة المادية والعينية لم تـُبـْقِ شيئاً يُذكـَر . والإنفاق الإستثماري أصبح غير موجود بعد أن تم البطش بالقطاع العام الأردني وتمت خصخصة الدولة . كما أن صيانة البنية التحتية للدولة هي صيانة ترقيعية وإذا كانت تطويرية فهي تعتمد بشكل أساسي على المساعادت الأجنبية ، مما يعني أن الإنفاق الرئيسي للدولة هو على الرواتب ضمن معادلة عجيبة تم من خلالها تقليص القطاع العام المنتج ونفخ القطاع الوظيفي غير المنتج ناهيك عن أن نظام الدولة الرَعَوي فَرَضَ تضخم في التعيينات الوظيفية المختلفة بشكل يفوق الحاجة الفعلية لها بمراحل . وهذا التضخم الوظيفي الحكومي الذي يُشكـِّل ما يقارب 70% من القوى العاملة لا تقع كلفته في الواقع على كاهل الحكومة بقـدر ما تقع على كاهـل 15- 10% من الشعب الأردني ممثله بالقطاع الخاص الذي يدفع الضرائب ويعاني من سياسة الجباية التي تـُمارسها الحكومة لتمويل إنفاقها العام . ومع ذلك ، فإن أفقر المواطنين يتعرض أيضاً للقـنص من خـلال الضرائـب غير المباشرة وغير المنظورة التي تفرضها الحكومات الأردنية على كل شئ من مستوردات وكهرباء ومياه ونفط بمشتقاته المختلفة ورسوم المعاملات الحكومية والملابس والأطعمة والمدارس والجامعات وكل شئ آخر قد يخطر أو لا يخطر على البال . وقد فرض هذا الوضع على الأسرة الأردنية العادية أن تعيش في عجز واضح بين دخلها ومصاريفها حتى في حدودها الدنيا. وهذا الواقع المتفاقم يوماً بعد يوم هو المـدخل المضمون إمّا إلى الفسـاد أو التطرف . وبما أن الدولـة الأردنية ما زالت تتمادى في سياسة الجباية فإن البحث يجب أن يبدأ إذاً إنطلاقاً من آثار هذه الظاهرة السلبية في بحثنا عن مسببات التطرف والإرهاب قبل البحث في ملفات التزمت الديني والسياسة كمسببات للإرهاب .
تتفنن الدولة الأردنية في اختراع وسائل الجباية وفي كيفية إخفاءها عن سمع وبصر المواطن الأردني خصوصاً وأنها تخالف الدستور مخالفة صريحة. فالمادة 111 من الفصل السابع من الدستور تنص على أن لا تفرض ضريبة إلا بقانون ويبدوا أنه عندما أصبح مجلس النواب لعبة بيد الحكومة من خلال التزوير، أصبح فرض الضريبة بقانون أمراً مقدوراً عليه. ومع ذلك تنص المادة على ما يلـي :-
“لا تـُفرض ضريبة أو رسم إلا بقانون . وعلى الحكومة أن تأخذ في فرض الضرائب بمبدأ التكليف التصاعدي مع تحقيق المساواة والعدالة الإجتماعية وأن لا تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء وحاجة الدولة إلى المال ” .
إذا الدستور يضع شروطاً وضوابط على عملية فرض الضرائب ولم يتركها مفتوحة لمزاج الحكومة . فنص المادة الدستورية يضع شرطين أساسيين على أي ضريبة مفروضة . الشرط الأول أن تكون تصاعدية وأن لا تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء وإلا أصبحت غير دستورية . والضريبة في هذه الحالة تشمل كل أنواع الضرائب المفروضة سواء مباشرة أو غير مباشرة وبمجموعها الكلي . أما الشرط الثاني فهو أن تهدف الضريبة فقط إلى سد حاجة الدولة إلى المال وعلى أن تكون هذه الضريبة منسجمة مع الشرط الأول . ومن الواضح أن تمويل الفساد والمديونية الناتجة عنه وعن سوء الإدارة والتخطيط لا يدخل ضمن مفهوم حاجة الدولة إلى المـال .
إن التلاعب بالحقوق الدستورية للمواطن من خلال سن قوانين تـُصادر عملياً تلك الحقوق قد أصبح سياسة تمارسها معظم الحكومات الأردنية ومؤسسات الدولة . ولنأخذ مثالاً على ذلك سلوك أمانة العاصمة تجاه موضوع الإستملاك على مدى أكثر من ثلاثين عاماً ، حيث إستملكت أراضي في أم أذينة لتحويلها إلى حديقة أطفال ثم قامت ببيعها لإقامة أبراج سكنية ومكتبية ، وكذلك إستملكت أراضي في وادي صقرة لتحويلها إلى حدائق الملك عبدالله ثم قامت بإستثمارها للمنفعة التجارية للأمانة وليس للمنفعة العامة ولم تقم لتلك الحدائق قائمة ، ثم قطعة أرض في أهم موقع تجاري في عبدون لتحويلها إلى حديقة عامة لتقوم بعد ذلك بإستثمارها مع أحد البنوك بشكل فاضح ولم تقم لتلك الحديقة المغلقة دائماً مع مواقفها الأرضية قائمة ، وقبل عدة أيام (3-9-2016 / جريدة الغد الأردنية) تقدمت أمانة العاصمة بالطلب من الحكومة تغيير صفة المنفعة لمنطقة “كوريدور عبدون” لغايات تحويلها من “النفع العام” إلى “البيع” مُخالـِفـَةً بذلك الدستور الأردني علماً أن جميع الأراضي المذكورة أعلاه والبالغة نحو 300 قطعة يقدر ثمنها بأكثر من 150 مليون دينار كانت لأشخاص أردنيين وتم استملاكها “للنفع العام” وليس لضخ أموال في صندوق الأمانة . هذه الأراضي يجب أن تعاد لأصحابها أو أن يتم تعويضهم بسعر السوق الحالي والحكومة لا تملك حق تغيير أسباب الإستملاك لأن في ذلك تـَعـَدٍ واضح على الدستور وعلى حقوق الأردنيين حسب المادة 11 من الفصل الثاني من الدستور الأردني التي تنص على ما يلـي :-
“لا يـُسْتـَملـَكْ مـُلْـكْ أحد إلا للمنفعة العامة وفي مقابل تعويض عادل حسبما يعين في القانون ” .
أي أن الإستملاك يسمح به الدستور حصراً للمنفعة العامة فقط ولا شئ آخر، أما التعويض العادل فهو حسب ما ينص عليه القانون وهو بيد الحكومة العتيدة إن إستطاعت إلى العدل سبيلا .
أما الغرامات التي تفرضها الحكومة بقانون على من يتأخر في تسديد أية رسوم حكومية فهي أقرب ما تكون إلى الرِبا الذي حرﱠمه الإسلام والمُعْتـَمِدْ في جبايته على سطوة الدولة . وأمانة العاصمة مثلاً هددت المواطنين في إعلان رسمي لها في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 16-10-2016 بإحتساب غرامة على المتأخرين عن دفع المستحقات بما قد يصل إلى 50% من قيمة الضريبة الأصلية .
لقد وصل الإستهتار في تعامل الحكومة مع المواطن الأردني وفي الإعتداء على حقوقه الدستورية إلى أقصى حدوده من خلال إساءة إستعمال موظفي الدولة للصلاحيات المعطاة لهم بموجب “قانون تحصيل الأموال الأميرية” ووصل الأمر إلى حد إرهاب المواطنين سواء بإيقاع الحجز على كافة الأموال العائدة لهم أو منع سفرهم بقرار عرفي من موظف عادي وليس بناء على حكم المحكمة . فإذا كان لدى الحكومة ذمة على شخص ما حتى لو كانت دنانير قليلة تقوم بالحجز على كامل حساباته في البنوك الأردنية وعلى أية أراضي أو أملاك له عوضاً عن الحجز على ما يعادل قيمة المطالبة . وفي بعض الأحيان يتم التعميم على الشخص المذكور بمنعه من السفر دون إبلاغه بذلك . ومن يتمتع بهذه الصلاحيات هم من موظفي الدرجة المتوسطة . إن مثل هذا السلوك لا ينم إلا عن عقلية عرفية جامدة غير قادرة على استعمال المنطق بل هي غير راغبة في ذلك وإلا لأكتشفت أن ذمة صغيرة لا تستحق إجراء حجوزات تفوق قيمة تلك الذمة بعشرات أو مئات أو آلاف المرات . وهذا هو محصلة طبيعية للأستهتار في تعامل المسؤول مع المواطن . فالحكومة تتعامل مع “حق الدولة” بإعتباره أهم بكثير من “حق المواطن” ، فهل من طريقة أمام المواطن للمحافظة على حقوقه و لوضع حد لشطط الدولة بعد أن تم إغلاق كافة السبل الديموقراطية والقضائية أمامه ؟