مخاطر اللجوء لصندوق النقد الدولي
وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي أواخر الشهر الماضي على ترتيبات للأردن لمدة (3) سنوات بموجب تسهيلات القرض الممتد يحصل الأردن بموجبه على قرض بقيمة (514.65) مليون وحدة حقوق سحب خاصة ما يعادل (723) مليون دولار. وفي أعقاب الموافقة هذه، أصدر الصندوق الدولي بياناً، قال (بأن تسهيلات القرض الممتد ستدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي، الذي ثبتته المملكة، فيما يهدف البرنامج إلى دعم ضبط أوضاع المالية العامة وتخفيض الدين العام).
كذلك تحدث الاتفاق الجديد عن إصلاحات ضريبية غير محددة مع الإشارة بأن الصندوق يحبذ زيادة الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات، كما يرفض الضريبة التصاعدية المعروف أنها ضرورية لإعادة توزيع الدخل، مما يؤكد على تشبث الصندوق بعقلية اقتصاد السوق، وتعميق الفجوة الطبقية في مجتمعات دول العالم الثالث والدول الفقيرة.
وتكشف الاتفاقية عن تفاهم الأردن مع الصندوق على رفع الدعم التدريجي الشامل ببحث يكتمل رفع الدعم بداية العام القادم حتى لا ينفجر الشارع.
ويشمل رفع الدعم الوقود والكهرباء وهذا يعني رفع أسعار الكهرباء بداية العام القادم. ولكن، لماذا هذا الاتفاق الجديد؟ ألم ينته الأردن من برامج الإصلاح بعد أكثر من ثلاث برامج وربع قرن من مشورات ونصائح صندوق النقد.
نعرف جميعاً برنامج التثبيت الذي وقعه الأردن مع الصندوق عام (1989)، والذي بدلاً من نقل الاقتصاد إلى واقع أفضل، أطاح بما تبقى من أمور إيجابية، وتسبب بانتكاسة شديدة عام (2004) حيث ارتفعت المديونية إلى مستويات تاريخية، وعانى الأردن من حالة انعدام الثقة باقتصاده من قبل المانحين والمقرضين الذين امتنعوا عن تقديم الأموال والقروض للأردن.
وعلى أثر ذلك، اضطر الأردن للتوقيع على اتفاق (سُمي برنامج الاستعداد الائتماني مع الصندوق) يبدأ في شهر آب (2012) وينتهي في آب (2015) وبموجبه أشرف الصندوق طوال الأعوام الثلاثة على برنامج إصلاح وحصل الأردن على قرض ميسر قيمته (2) مليار دولار على دفعات. ولقد تم تبرير هذا الاتفاق بالبيئة الإقليمية الصعبة، واشتعال جبهات العراق وسوريا، وانسداد طرق التجارة، وارتفاع كلفة استقبال اللاجئين، إضافة إلى ما قيل عن ضغوط الإنفاق على المتطلبات الأمنية.
مرة أخرى، لم يتولد عن هذا البرنامج أي تقدم إيجابي على الصعيد الاقتصادي ولم يجرِ أي تحسين على الوضع المعيشي، لقد ارتفع صافي الدين العام نهاية شهر (10) عام (2015) فقط بمقدار (2030.6) مليون دينار بنسبة (9.9%) ليصل حجم المديونية إلى (22,585,7) مليار دينار قدرت نسبته بما يساوي (83.3%) من الناتج المحلي الإجمالي لعام (2015). وعلى صعيد الاستثمار الأجنبي سجل النصف الأول من العام الحالي تراجعاً نسبته (43%) ووصل إلى (400) مليون دينار متراجعاً بمقدار حوالي (300) مليون دينار مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.
[quote bgcolor=”#ddb06c” arrow=”yes” align=”left”]هذا الغول المسعور الذي أصبح يلتهم كافة موارد الأردن دون أن يشبع، وهذا بالضبط هو الهدف الرئيسي من سياسة صندوق النقد الدولي، إفقار الدول النامية والفقيرة من خلال إغراقها بالديون[/quote]
أما معدلات الفقر والبطالة، فقد ازدادت بدلاً من تراجعها، فارتفعت البطالة (2.4) نقطة لتبلغ (13.8%) ونحن هنا ننقل عن الإحصاءات الرسمية أي (الجريدة الرسمية) لأن هناك إحصائيات غير رسمية تشير إلى نسبة (30%) خاصة بين من هم في سن الثلاثين من الشباب الذين يشكلون (70%) من عدد السكان.
وإلى جانب هذا الفشل الذي سجلته السياسات الاقتصادية وبرامج صندوق النقد الدولي، بحيث استمر الاقتصاد الأردني يترنح تحت ثقل الضغوط، لجأت الحكومة إلى إجراءات قاسية تركزت على رفع الضرائب والرسوم، ولم يكن ذلك ليفيد في وقف الأزمة حتى لجأت الحكومة إلى زيادة الاقتراض من البنوك المحلية والمؤسسات المالية الدولية، مما رفع من حجم الدين العام إلى أن وصل إلى معدلات مقلقة ومخيفة بحيث وصلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي (94%).
وبسبب تفاقم الأزمة، وانسداد أي أفق أمام إيجاد حلول مجدية، استغاثت الحكومة مرة أخرى بصندوق النقد الدولي، وبعد مشاورات مكثفة، وافق الصندوق على ما أسماه (الصندوق) ترتيبات لمدة (3) سنوات يحصل الأردن بموجب هذه الترتيبات على ما يسمى القرض الممتد ومقداره (514.65) مليون وحدة حقوق سحب خاصة تعادل حوالي (723) مليون دولار، وهذه تمثل (150%) من حصة الأردن بالصندوق، وكما في كل مرة أصدر الصندوق بياناً زعم فيه بأن تسهيلات القرض الممتد ستدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي تبنّته المملكة، ويهدف إلى دعم ضبط أوضاع المالية العامة، وتخفيض الدين العام.
طبعاً شروط هذا القروض لا تقل قساوة عن شروط القروض الأخرى، بل وضع الصندوق شروطاً وإجراءات إضافية على الأردن أن ينفذها خلال الثلاث سنوات من (2017 _ 2019) بحيث يتم تخفيض حجم الدين العام خلال السنوات الثلاث لتصبح نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي (60%) أي يتم تخفيض النسبة (40.6%) أي بحدود (1,526) مليار دينار في العام الأول و(1,5) مليار دينار في العام الثاني (2018) و (1,4) مليار في العام (2019)، وهذا حسب الصندوق يتطلب الالتزام باتخاذ إجراءات مالية سنوية في جانبي الإيرادات والنفقات.
لم يتسنَ الحصول على توضيحات حول طبيعة هذه الإجراءات، لكن المعروف أن أي مساس سلبي في هذين الجانبين سيعني تناسي شيء اسمه رفع معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما لم يرد في هدف القرض الممتد، بمعنى أن مبلغ القرض سيضاف إلى مجمل الدين العام دون أن تتحقق زيادة في معدلات النمو والتي من شأنها المساهمة في الحد من تضخم المديونية. هذا الغول المسعور الذي أصبح يلتهم كافة موارد الأردن دون أن يشبع. وهذا بالضبط هو الهدف الرئيسي من سياسة صندوق النقد الدولي، إفقار الدول النامية والفقيرة، من خلال إغراقها بالديون واستنزاف مواردها.
إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليسا جمعيات خيرية، هما مرابيان جشعان. صندوق النقد مجرد (قاتل اقتصادي) كما يقول جون بيركنز* الذي ألحق الخراب والدمار باعترافه المباشر بالعديد من دول العالم الثالث، من خلال تشجيعه لزعماء هذه الدول على الوقوع في شرك قروض تؤمن ولاءهم. ويضيف (وبهذا يمكننا ابتزازهم متى شئنا لتأمين حاجاتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية).
فلو استعرضنا أسماء الذين ترأسوا البنك الدولي ابتداءً من روبرت مكنمارا، إلى جورج شولتز إلى كاسبر واينبرغر إلى ريتشارد هيلمز مدير وكالة الاستفجارات المركزية إلى الرئيس الحالي لأدركنا معنى ما قاله بيركنز بأن أعظم ما قدمه هؤلاء للتاريخ وأكثره شراً هو أنهم قادوا البنك الدولي.
لكن ما يدعو إلى الحزن والأسف والقلق، أن صندوق النقد والبنك الدوليين أوصلا دولاً مثل الأردن إلى وضع لا يجدون مكاناً آخر يلجأون إليه للاستغاثة والبكاء والنحيب، فإلى من يلجأ الأردن مثلاً في مرحلة مثل هذه المرحلة لاستجداء الحلول لأزماته الخانقة غير هذه المؤسسات المالية الشريرة؟
الأردن وغيره من الدول التي انزلقت إلى هذا المستنقع راحت برجلها، إلى مكان حتفها، وقد دفعها أرباب المال، والفاسدون، والليبراليون الجدد، وهؤلاء ما زالوا في أماكن نفوذهم، بدليل أنهم دافعوا وما زالوا يدافعون عن بقاء العلاقة مع صندوق النقد، وما زالوا يبثون أفكارهم الشريرة، بأن البرنامج الذي وضعه الصندوق يسعى إلى خفض المديونية وضبط العجز في الموازنة العامة.
ختاماً، هناك دول عالمية تمردت على سياسة الصندوق الدولي، واستفادت ووظفت قروض الصندوق في التنمية، وحققت نتائج مبهرة، لكنها كانت تمتلك الإرداة والتصميم والقرار السيادي، وهناك دول خنعت ورضخت فأصبحت أسيرة مكبلة بأصفاد الصندوق الدولي والأردن مع الأسف أحدها.
*((جون بيركنز) مؤلف كتاب (اعترافات قاتل اقتصادي)