أخبار محلية

تهافت الأنظمة العربية على صندوق النقد لم يجلب لها سوى المزيد من الفقر والبطالة

في منتصف حزيران ومع الأيام الأولى لتسلم الدكتور هاني الملقي مهامه كرئيس للوزراء، أعلنت الحكومة الأردنية توصلها لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي ولمدة ثلاث سنوات وذلك بهدف “دعم اقتصاد المملكة المتعثر”.
وهذا الاتفاق هو الاتفاق الثاني الذي توقعه المملكة الأردنية مع الصندوق في أقل من أربع سنوات. حيث تم في عام 2012 توقيع اتفاقية كانت تهدف لخفض العجز في الميزانية، إلا أنه ومع انتهاء الاتفاقية التي استمرت ثلاث سنوات (2012-2015) كان العجز في الميزانية يصل أرقاماً فلكية وتفاقمت المديونية، وذلك على الرغم من تطبيق الحكومة الأردنية لكافة متطلبات و”أوامر” صندوق النقد الدولي. ما يطرح سؤالاً حول مدى الفوائد التي يجنيها الأردن وغيره من الدول من توقيع اتفاقيات مع هذا الصندوق، وماهية الدور الذي يلعبه على المستوى العالمي.

ما هو صندوق النقد الدولي؟
يشير الموقع الإلكتروني الرسمي لصندوق النقد الدولي، إلى أن فكرة إنشاء صندوق النقد الدولي تبلورت أثناء مؤتمر عقدته الأمم المتحدة في بريتون وودز بولاية نيوهامبشير الأمريكية في يوليو 1944. وكانت البلدان الأربعة والأربعين الممثلة في ذلك المؤتمر تسعى إلى وضع إطار للتعاون الاقتصادي يتجنب تكرار التخفيضات التنافسية لأسعار العملات التي ساهمت في حدوث الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي.
ويعمل صندوق النقد الدولي على “تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم، كما يسعى لتيسير التجارة الدولية، وزيادة معدلات توظيف العمالة والنمو الاقتصادي القابل للاستمرار، والحد من الفقر في مختلف بلدان العالم”.
وتتلخص مهام الصندوق وفق الموقع الإلكتروني ذاته بضمان استقرار النظام النقدي الدولي – أي نظام أسعار الصرف والمدفوعات الدولية الذي يمَكِّن البلدان (ومواطنيها) من إجراء المعاملات فيما بينها، والحفاظ على الاستقرار ومنع وقوع أزمات في النظام النقدي الدولي.
كما يقدم الصندوق المشورة لأعضائه البالغ عددهم 189 بلداً، مشجعاً على اعتماد سياسات تعزز الاستقرار الاقتصادي وتحد من التعرض للأزمات الاقتصادية والمالية وترفع مستويات المعيشة. كذلك يقدم الصندوق تقييماً منتظماً للتطورات العالمية المحتملة من خلال تقرير آفاق الاقتصاد العالمي ولتطورات الأسواق المالية من خلال تقرير الاستقرار المالي العالمي ولتطورات الموارد العامة من خلال تقرير الراصد المالي، إضافة إلى نشر سلسلة من التقارير عن آفاق الاقتصاد الإقليمي.
وعلى صعيد المساعدة المالية: يقدم الصندوق مساعدات مالية لبلدانه الأعضاء حتى تتمكن من تصحيح مشكلاتها المتعلقة بميزان المدفوعات، حيث تصمم السلطات الوطنية برامج التصحيح الاقتصادي بالتعاون الوثيق مع الصندوق وبدعم تمويلي منه، على أن يرتهن استمرار هذا الدعم بمدى فعالية تنفيذ هذه البرامج.
ويشير الكاتب سيربست شيخي إلى أن هدف تأسيس البنك االدولي يختلف عن هدف صندوق النقد الدولي الذي يركز في أساسه على تصحيح المسار المالي للمدى القصير. أما البنك الدولي، فركز على إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن فيما بعد بدأ البنك بالتركيز على الدول الفقيرة والنامية. أما صندوق النقد الدولي فأرادت له الدول الإمبريالية أن يكون أداة لتنفيذ مشاريع الإقراض الخارجي، وخلق الفرص الذهبية لاستثمارها في البلدان النامية، ولهذا تصاغ سياسات صندوق النقد الدولي بالتوافق مع سياسات الدول الإمبريالية وللتغطية على النوايا المبيّتة والأهداف التي تخطط لها هذه الدول، لإيقاع البلدان المتخلّفة في شباك المديونية الخارجية، وذلك عن طريق إشهار شعارات المساعدة والمعونة وغيرها من الشعارات البراقة التي تخفي وراءها خططاً ومؤامرات جهنمية لاستعمار العالم النامي.
ويلفت الأستاذ محمد البشير عضو لجنة المتابعة لحملة الخبز والديمقراطية ورئيس جمعية مدققي الحسابات سابقاً، إلى أن صندوق النقد الدولي أخفق في تحقيق أي هدف من هذه الأهداف التي أعلن عنها، فمعدلات الفقر تشير حسب وثائق منظمة الأمم المتحدة إلى أن عدد الفقراء في سنة 1980 وصل إلى (90) مليون وأنها تعمل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية على تخفيض الرقم إلى (50) مليون خلال عشرون عاماً. إلا أن النتائج كانت تشير إلى أن عدد الفقراء في سنة 2000 بلغ ما يزيد على مليار وأربعمائة مليون واليوم فإنه يقترب من المليار وسبعمائة مليون.

أهداف اقتصادية أم وراء الأكمة ما وراءها؟!
ويرى الأستاذ فايق حجازين الصحفي المختص بالشؤون الاقتصادية في وكالة الأنباء الأردنية أن صندوق النقد عمل على تحقيق الأهداف العامة التي أنشئ من أجلها، لكن بأدوات مختلفة تم تصميمها حسب تطورات الأوضاع في الدول وأنواع المشكلات والتحديات التي تواجهها، تزداد هذه الأدوات صعوبة طردياً مع صعوبة الأوضاع المالية والنقدية في الدولة التي يتم تطبيق برنامج الصندوق فيها.
ويشير حجازين إلى أن برامج الصندوق اتسمت تاريخياً بأنها صارمة، يفرض فيها شروطه لتحسين الأوضاع المالية والنقدية ويتدخل في السياسات الضابطة لهذه النشاطات، ويتدخل في آليات النفقات والإيرادات، ويفرض رقابته المباشرة بواسطة لجانه الفنية. لكن بعد عام 2009، ونتيجة الإصلاحات الداخلية التي أجراها الصندوق وتداعيات الأزمة المالية العالمية، فقد تم تغيير طريقة التعامل.
فقد أصبح الصندوق –وفق حجازين- مرشداً في مجال المالية العامة والسياسة النقدية والاقتصادية لأي دولة عضو فيه، وتستدعي ظروفها تدخّل الصندوق، يشخّص المشكلات بالتعاون مع الجهات الرسمية من وزارة المالية والبنك المركزي واللجان المختصة في البرلمانات، ويضع أهدافاً مالية ونقدية محددة بفترة زمنية تعالج المشكلات الهيكلية التي تواجه الدولة وتتوافق مع الأهداف الوطنية، وغالباً ما يكون برنامج إصلاح اقتصادي شامل، ويختار الأداة التي تناسب أوضاع الدولة، وتختار الدولة من خلال أجهزتها المالية والنقدية آلياتها لتحقيق الأهداف التي يتم الاتفاق عليها ولا يتدخل الصندوق في هذه الحالة في هذه الآليات، مثلما كان يعمل سابقاً.
فيما يلفت الأستاذ وائل جمال الكاتب المصري المختص بالشؤون الاقتصادية في حديث خاص لـ نداء الوطن، إلى أن الصندوق ومؤسسات بريتون وودز ومنظمة التجارة الدولية، كلها تمر بأزمة مصداقية وتأثير كبيرة منذ بداية القرن الحادي والعشرين وتفاقمت الأزمة أكثر وأكثر بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2007-2008.
ونوّه جمال إلى أن أزمة المصداقية علامة واضحة على فشل هذه المؤسسات في القيام بالأدوار التي تقول إنها تؤديها وحتى فشلها في توقع الأزمة وفي صياغة سبل للخروج منها. وقد كان ذلك الوضع سبباً في محاولات لإعادة النظر في دور هذه المؤسسات وفي خطابها. ومما تسبب في هذه الأزمة أيضاً هو أن هذه المؤسسات (الثالوث غير المقدس) لها الدور المركزي كرأس حربة لمشروع الليبرالية الجديدة العالمية بالترويج له وبفرضه وبتوسيع قاعدته في كل أرجاء العالم، فنالها ما ناله من فشل، وانفضحت شعاراتها بما تسببت فيه من تعميق للامساواة والبطالة وإهدار لفرص التنمية، في مقابل ضعف النمو للاقتصادي حتى بمعناه الضيق.
ويتفق الرفيق عبد المجيد دنديس عضو المكتب السياسي في حزب الوحدة الشعبية وعضو لجنة المتابعة لحملة الخبز والديمقراطية مع ما ذهب إليه الأستاذ وائل جمال، مشيراً إلى أنه بالتدقيق في اشتراطات الصندوق على الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية وتلجأ للاقتراض منه، هذه الاشتراطات المتمثلة بتخفيض النفقات الحكومية من خلال (تقليص الخدمات الاجتماعية للمواطنين، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، وإلغاء الدعم عن سعر المحروقات، وزيادة الضرائب على المواطنين، وتحرير العلاقات التجارية وبشكل خاص إلغاء الرسوم الجمركية، وتحرير حركة رؤوس الأموال، وخصخصة مؤسسات القطاع العام، وتخفيض سعر العملة الوطنية وتعويمها، وتشجيع الإستثمار الأجنبي).وبالتدقيق ندرك الدور الحقيقي للصندوق، بأنه لم يكن يسعى لتحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، بل فرض نفسه شكلاً جديداً للاستعمار بدل الشكل العسكري من خلال السيطرة والهيمنة الاقتصادية على العالم، وربط اقتصادات الدول بالمنظومة العالمية التي فرضتها الولايات المتحدة التي تمتلك النفوذ الأكبر في الصندوق.

الفيتو الأمريكي: تسييس ممنهج
ويلفت الدكتور إبراهيم علوش رئيس جمعية مناهضة الصهيونية وأستاذ الاقتصاد في جامعة الزيتونة إلى أن صندوق النقد الدولي هو مصرف الدول الصناعية المتقدمة،ويرأسه أوروبي دوماً، بينما يرأس أمريكي البنك الدولي، فيما النائب الأول للصندوق أمريكي دوماً. ومع أنه يضم في مجلس إدارته حالياً 187 دولة، فإن أصوات تلك الدول لا تتساوى، بل تتناسب مع حصتها في الصندوق. مثلاً، للولايات المتحدة 17 بالمئة من الأصوات، والطريف في الأمر أن أي قرار مهم للصندوق يجب أن يؤخذ بأغلبية 85 بالمئة من الأصوات، مما يعني منح الولايات المتحدة حق فيتو خاص بها وحدها.
ويشير علوش في حديث لـ نداء الوطن، إلى أن التناسب بين حصة أي دولة من أصول الصندوق، وحصتها من الأصوات في مجلس إدارته، لا يعني أن بإمكان أي دولة زيادة حصتها في الصندوق كيفما شاءت، حيث واجهت الصين مشكلة عام 2001 عندما حاولت زيادة حصتها. وتسيطر الدول الصناعية المتقدمة معاً على 57 بالمئة من أصوات الصندوق. وبعد مباحثات استمرت سنوات، تم الاتفاق في عام 2008 على زيادة حصة الاقتصاديات الصاعدة الأربعة: الصين، الهند، البرازيل، وروسيا، ويفترض أنحصة الصين وكوريا والمكسيك وتركيا قد زيدت في 28/4/2008، فيما تم تخفيض حصة الدول الصناعية المتقدمة قليلاً بما لا يهدد سيطرتها،وطبعاً لا تزال حصة الولايات المتحدة 17 بالمئة.
فيما يرى رئيس جمعية مدققي الحسابات الأردنية الأسبق الأستاذ محمد البشير في حديث لـ نداء الوطن، أن الصندوق استطاع أن يحقق أهدافه في ربط غالبية عملات العالم بالدولار الأمريكي، مما سهّل على الإدارة النقدية الأمريكية من تفكيك علاقة عملتها (دولار) بالذهب، كما ورد باتفاقية (برتن وودز). كما قامت الإدارة الأمريكية –وفق البشير- من خلال صندوق النقد، باعتماد الدولار كوسيط للمعاملات التجارية دولياً، وخاصة منها المعاملات المالية الخاصة بتجارة النفط والغاز، ابتداءً من مطلع السبعينات.
وفي توضيحه على تفاوت القوة التصويتية للدول، أشار الكاتب الصحفي الأستاذ فايق حجازين في حديث خاص لـ نداء الوطن،إلى أن التصويت المقصود هنا يتم على القرارات المهمة والإستراتيجية التي تتعلق بعمل الصندوق بشكل عام، أما ما يتعلق بالقرارات التي يتم اتخاذها بشأن الإجراءات والبرامج التي يجب اتباعها في أي دولة، وهو المهم، فيتم بالتوافق الفني من قبل لجان فنية على شكل بعثات يرسلها الصندوق للدولة، وتعمل هذه البعثة مع السلطات المحلية، من وزارة مالية أو خزانة، أو بنك مركزي أو سلطة نقد، حسب المسميات في كل دولة، ويتم التوافق على البرنامج وأهدافه وأدوات الصندوق المناسبة لتحقيق هذه الأهداف، وترفع البعثة تقريرها إلى مجلس إدارة الصندوق الذي يصادق، في الغالب، على توصية البعثة. نافياً أن يكون هنالك وجود أهداف مخفية يسعى صندوق النقد الدولي لتحقيقها. لكن في بعض الحالات، يتم التنسيق مع الدول المانحة لضمان عدم تقديم أية مساعدات مالية للدول التي تعاني من اختلالات هيكلية في مجال المالية العامة والسياسة النقدية أو يستشري فيها الفساد، كي تخضع لبرنامج مراقبة من الصندوق، فيأتي البرنامج كمنقذ لهذه الدولة وشهادة “حسن سلوك” تؤهلها للاقتراض من المؤسسات المالية الدولية أو تلقي المساعدات المالية من المانحين.
ويختلف الأستاذ وائل جمال الكاتب الصحفي في جريدة الشروق المصرية والسفير اللبنانية، مع حجازين مشيراً إلى وجود ارتباط موثق بين العناصر السياسية ومواقف صندوق النقد.
ولفت جمال إلى وجود دراسات حاولت رصد الصلة بين توجهات السياسة الأمريكية وبين توجهات الصندوق. كما تكشف ترتيبات مابعد ثورات العرب في 2011 ذلك بوضوح، حيث شكّلت مبادرة “دوفيل” التي تأسست في أيّار 2011، إطاراً شاملاً جمع الصندوق وباقي الثالوث غير المقدس إلى جانب الولايات المتحدة ووغيرها من الدول الصناعية الكبرى وحتى الدول المانحة العربية في الخليج، للتعامل مع المنطقة كوحدة واحدة بسياسة واحدة منسّقة. وقد ضمت المبادرة من اللحظة الأولى دولاً عربية لم تشهد سقوط أنظمة على رأسها الأردن بحساب سياسي مباشر. وقد لعبت مبادرة “دوفيل” دوراً أساسياً في استعادة الليبرالية الجديدة للمنطقة بتنسيق فاعل بين كل الأطراف والمصالح المعنية.
ويتفق الرفيق عبد المجيد دنديس، مع ما ذهب إليه الكاتب جمال، مؤكداً على أن الأهداف السياسية للصندوق تتمثل في استمرار دور النظام الرأسمالي العالمي بالهيمنة على اقتصادات الدول النامية وإفقار شعوبها وبالتالي التحكم بقرارها السياسي.
ورأى الرفيق دنديس في حديثه لـ نداء الوطن، أن القوة التصويتية للولايات المتحدة تلعب الدور الحاسم في توجهات وقرارات الصندوق، والتجربة دللت بأن لصندوق النقد دوراً غير معلن عنه، وهو الحفاظ على مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

[quote arrow=”yes”]

حقائق حول صندوق النقد الدولي*

الأعضاء: 189 بلداً.
المقر: العاصمة واشنطن.
المجلس التنفيذي: 24 مديراً تنفيذياً يمثل كل منهم بلداً واحداً أو مجموعة بلدان.
مجموع حصص العضوية: 650 مليار دولار أمريكي.
الموارد الإضافية المتعهَّد بها أو المرصودة: 642 مليار دولار.
أكبر المقترضين (المبالغ غير المسددة حسب بيانات 29 فبراير 2016): البرتغال واليونان وأوكرانيا وايرلندا.
أكبر القروض الوقائية (المبلغ المتفق عليه حسب بيانات 10 مارس 2016): المكسيك وبولندا وكولومبيا والمغرب.
المشاورات في سياق الرقابة: 130 مشاورة في 2013 و 132 في 2014 و 124 في 2015.
الأهداف الأصلية:
_ تشجيع التعاون الدولي في الميدان النقدي.
_ تيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولي.
_ تشجيع استقرار أسعار الصرف.
_ المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف.
_ إتاحة الموارد (بضمانات كافية) للبلدان الأعضاء التي تمر بمشكلات تتعلق بميزان المدفوعات.

*المصدر: الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي

[/quote]

تهافت على الاقتراض ونتائج “مخيبة”
ورغم كل ما يمكن أن يقال عن صندوق النقد الدولي، وحجم التجارب الفاشلة التي مرّت بها دول قامت بتطبيق برنامج الصندوق، إلا أن الدول لا تزال تتسابق على الاقتراض منه وتطبيق برامجه.
ويرى الكاتب الاقتصادي وائل جمالأنه عادة ما تقدم الحكومات تبريرات مماثلة كثيراً للاقتراض من الصندوق، تدور في الأغلب حول حتمية ذلك بسبب عجوزات الموازنة، وأحياناً أخرى أن إقرار الصندوق لبرنامج السياسات المشروط بها القرض، “يعطي شهادة ثقة” في الاقتصاد المحلي، وبالطبع لا يفوتها أبداً الإشارة إلى انخفاض معدلات الفائدة في هذه القروض حالياً مقارنة بسبل اقتراض أخرى. لكن الأساس هو البرنامج،الأساس هو السياسات، وليس في أحيان كثيرة مبلغ القرض.
ويكشف جمال أن التجارب فيما بعد الربيع العربي،وأن الشروط لم تكن أساساً مُملاة من الخارج، وإنما في أحيان كثيرة تكون شروط البرامج التقشفية وتحرير قطاعات اقتصادية مطلباً لطبقات أعمال وسلطة محلية، وتستخدم بالتراضي سلطة الصندوق لتمريرها.
ولفت جمال إلى تجربة النمور الآسيوية، حيث كان هنالك طريقان للخروج من الأزمة: الطريق الإندونيسي برعاية الصندوق، وقد نجح في النهاية في استعادة النمو، لكن بتكلفة اجتماعية باهظة وبتفتيت وإفلاس قطاعات اقتصادية واسعة، وبتدمير لمستويات معيشة الملايين مما عكس نفسه في ثورة 1998 والإطاحة بسوهارتو. بينما كان الطريق الماليزي، الذي اتبع وصفة عكسية لطلبات الصندوق، أسرع خروجاً من الأزمة وأكثر سلاسة. ويمكن الإشارة أيضاً لتجربة الأرجنتين التي استمر الانكماش الاقتصادي فيها لأربع سنوات بعد تدخل الصندوق لضمان أموال ومصالح المؤسسات المالية العالمية في أزمة عامي 2000-2001.
إلا أن الكاتب الصحفي المختص بالشؤون الاقتصادية فايق حجازين، يرى أن التهافت على صندوق النقد هو ليس للاقتراض فقط، بل للحصول على شهادة أن هذه الدولة تراقب نفقاتها وترشدها وتوجهها الوجهة الصحيحة، وأن هذه الدولة في طريقها لإزالة التشوهات الاقتصادية المرتبطة في دعم السلعة، وأنها قادرة على حماية الطبقات الفقيرة في المجتمع وتوجيه الدعم النقدي للمستحقين، وبالتالي لديها القدرة على إدارة أوضاعها المالية والنقدية بكفاءة وهو ما يؤهلها للحصول على القروض من المجتمع المؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة.
وأشار حجازين إلى أنه لا يعني كل برنامج مع الصندوق، أن تقترض الدولة من الصندوق، فالاقتراض مرتبط بطبيعة الأداة التي يقترحها الصندوق وتتناسب مع طبيعة المشكلات التي تواجه الدولة.
ولفت حجازين إلى أن نتائج برامج الصندوق في الدول، هي مسؤولية الدول نفسها. فالدولة وأجهزتها معنية بتحقيق الأهداف التي تضعها بالتعاون مع الصندوق، والتي غالباً ما تتصل في تخفيض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي في تلك الدولة، وتقليص عجز الموازنة، بزيادة الإيرادات أو رفع كفاءتها عبر الحد من التهرب والتجنب الضريبي حيناً وزيادة الإيرادات حيناًآخر، مقابل تقليل النفقات أو ترشيدها وجعلها أكثر إنتاجية، بما يسهم في زيادة النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل.
فيما يرى الرفيق عبد المجيد دنديس عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية أن حالة التهافت التي تمارسها الدول باستسهال الاقتراض من صندوق النقد الدولي، يرتبط بطبيعة الأنظمة القائمة في تلك الدول التي تعمل على مصادرة الحريات العامة وتغييب الإرادة الشعبية، وتفشي الفساد، والتبعية للولايات المتحدة والغرب، للحفاظ على السلطة والثروة.
ونوّه دنديس إلى أن هذه الدول التي دخلت في باب الاقتراض من صندوق النقد الدولي، لم تحقق أية إنجازات على المدى المتوسط والبعيد للنهوض باقتصادها الوطني، بل بالعكس، كانت النتائج كارثية على تلك الدول وشعوبها وتجربة الصندوق مع يوغسلافيا والأرجنتين والنمور الآسيوية خير مثال على ذلك.
وكشف الأستاذ محمد البشيرأن الدول الفاسدة والتي ينتشر فيها الاستبداد هي التي تلجأ إلى الصندوق و/ أو هي المستهدفة من قبل الصندوق في إغراقها بالقروض، والصندوق يعلم ويعمل على أن لا تسدد ديونها حتى تسقط في مصيدته حتى تحقيق أهدافه في السيطرة على قرارها السياسي ومنع تقدمها وتطورها الاقتصادي السليم، وهذا ما أكده الدكتور جون بركينز في كتابه “اعترافات تحايل اقتصادي”.

الأردن: اتفاقية جديدة مع الصندوق
قام الأردن بتوقيع اتفاقية جديدة مع صندوق النقد الدولي لثلاث سنوات قادمة، تم في الاتفاقية وضع نص يثبّت رفع أسعار المياه والكهرباء اعتباراً من بداية العام القادم. كما يتوقع أن تقوم الحكومة برفع أسعار الخبز أو “توجيه الدعم لمستحقيه” لتوفير النفقات، إضافة إلى سلسلة إجراءات بدأت منذ شهر تقريباً.
ويرى الرفيق عبدالمجيد دنديس أن الحكومات الأردنية المتعاقبة جربت هذه السياسة من خلال البرامج التي طبقتها مع صندوق النقد الدولي وكانت النتيجة إصلاح المديونية بمزيد من الدين، حتى وصلت إلى أرقام فلكية تنوء تحتها ميزانية خدمة الدين فما بالك بأصول الديون نفسها.
ولفت دنديس إلى أن الحكومة تحولت عندناإلى حكومات جباية من جيوب المواطنين والمشهد سيتكرر أيضاً مع الحكومة الحالية التي بدأت مسؤوليتها باتخاذ سلسلة من الإجراءات الاقتصادية التي تمس حياة ومعيشة الناس وستفشل كسابقاتها.
ونوّه الرفيق دنديس إلى أن الأكثر تأثراً بالاتفاقية هم الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وستزداد مساحة الفقر اتساعاً بسبب تنامي ظاهرة البطالة وفقدان فرص العمل، وتأثيرها المباشر سيكون على القطاع الصناعي اليي يفتقد لتعزيز التنافسية، وضعف تعزيز قدرته على التصدير للأسواق المجاورة، إضافة لارتفاع كلفة الصناعات المحلية التي تتأثر تصاعدياً مع ارتفاع كلفة أسعار الطاقة المنتجة لهذه الصناعات، وسيعاني القطاع الزراعي الذي يشهد حالة تراجع وتدهور، من هذه الاتفاقية.
فيما يشير الكاتب الاقتصادي فايق حجازين إلى أن اتفاقية الأردن مع صندوق النقد الدولي تهدف لتخفيض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 77 بالمئة في عام 2021، مقابل 93 بالمئة في العام الماضي 2015. وتحت هذا الهدف الأعلى توجد أهداف فرعية، أبرزها إزالة التشوهات في أنظمة الدعم، وتوجيه الدعم النقدي للمستحقين، والوصول إلى تحقيق التعادل بين إيرادات شركة الكهرباء الوطنية ونفقاتها، وهو ما تحقق، والبدء ببرنامج لسداد ديون الشركة التي قاربت 5,5 مليار دينار. وهي جميعها أهدافاً سعت وتسعى الحكومات المتعاقبة إلى تحقيقها، وليست إملاءات من صندوق النقد الدولي.
ويلفت حجازين إلى أن هذه الإجراءات ضرورية لمعالجة اختلالات هيكلية في الاقتصاد الوطني، وتضمن في الوقت نفسه تحقيق النمو الاقتصادي الذي يسهم في تحسين مستوى الدين العام كنسبة إلى الناتج من جهة، وتوفير فرص عمل للقوى الداخل إلى سوق العمل سنوياً وتخفيض نسبة البطالة التي وصلت إلى مستويات قياسية.
ونوّه الكاتب حجازين إلى أن انتظام استيراد الغاز عبر الميناء الجديد، الذي تم تشييده في خليج العقبة، سيسهم في حل مشكلة الطاقة وارتفاع التكاليف المرتبطة بها، ذلك إلى جانب التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة، الشمسية والرياح، وبالتالي تخفيض التكلفة على القطاع الخاص وتحسين تنافسية الصناعة الأردنية.
الأردن والاتفاق مع صندوق النقد الدولي: قدر محتوم ؟!
ويعتبر الرفيق عبدالمجيد دنديس أن الاقتراض من صندوق النقد الدولي ليس قدراً محتوماً، وأن دولاً كالأردن ومصر لديها بالتأكيد البدائل الكافية للاستغناء عن الاقتراض من الصندوق.
وأكد دنديس أن هذه البدائل تتمثل أولاً بانتهاج سياسة وطنية تعتمد على الذات رغم كلفتها ونتائجها الصعبة في البداية على الاقتصاد الوطني والمواطنين، ويتلازم معها مشروع الإصلاح السياسي والتغيير الوطني الديمقراطي الذي يفتح الطريق لتطبيق إصلاحات وطنية تعزز القرار الوطني والتخلص من سياسة التبعية والارتهان. أما بالنسبة للخيارات برفض شروط صندوق النقد الدولي، أعتقد أنها متاحة في حال تحقق الشرط الأول، الشروع بتغيير النهج السياسي والاقتصادي، واعتماد سياسة وطنية مستقلة ترتبط بالعمق العربي الرافض للهمينة والتبعية للدوائر الإمبريالية.
فيما يعتبر الأستاذ فايق حجازين أن البديل الأفضل، هو ترشيد النفقات، وجعلها نفقات منتجة، والوصول إلى تغطية الإيرادات المحلية للنفقات الجارية بنسبة 100 بالمئة، واللجوء للاقتراض لا يتم إلا لتغطية جزء من النفقات الرأسمالية، وتوجيه النفقات الرأسمالية لتكون منتجة.
ولفت حجازين إلى أن كل دولة تستطيع أن ترفض شروط صندوق النقد الدولي، لكن لا تستطيع تجنب التزاماتها حيال المقرضين والممولين، والدليل على ذلك البرازيل التي رفضت في تسعينات القرن الماضي سداد ديون عليها لصندوق النقد والمجتمع الدولي، لكنها بعدما حققت نهضة اقتصادية، عادت إلى سداد ديونها عن آخرها وأصبحت دولة صناعية وقوة اقتصادية واعدة.
وأكد الكاتب المصري الأستاذ وائل جمال أن البدائل عن صندوق النقد الدولي دائماً موجودة. وفي الحالة المصرية بعد 2011، كانت هناك طرق عديدة للتعامل مع أزمة ميزان المدفوعات على رأسها وضع إجراءات ضد تهريب الأموال ولضبط هروب الأموال. وكانت هناك بدائل عديدة لفرض السيادة الديمقراطية على عملية الاقتراض لضمان شفافيتها وفائدتها في التنمية.
وأشار إلى إمكانية اتباع الطريقين البرازيلي والإكوادوري في تدقيق الديون الخارجية وإسقاط ما ينتمي لديون الاستبداد الكريه منها. من الناحية العكسية، هناك بدائل عديدة لنهج التقشف المالي الذي يفرضه الصندوق وتحبذه الحكومات والذي يضرب أول ما يضرب في مستويات معيشة المنتجين ثم يضرب النشاط الاقتصادي ذاته في مقتل. لكن تفعيل البدائل ليس قراراً فنياً، وإنما هو مثله مثل سياسات التقشف والاقتراض من الصندوق محل عراك سياسي مباشر لا يمكن فرض البدائل التي تدفع التنمية والرفاه والمساواة إلا به.
يبدو أن كافة الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي ومن ضمنها الأردن، لم تجني من هذه الاتفاقيات على المدى المتوسط والبعيد سوى المزيد من المديونية والفقر والبطالة، حالها حال دول آسيوية وأمريكية لاتينية ذاقت مرارة هذه الاتفاقيات.
ويكفي الإشارة إلى أن تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي في الأردن منذ أكثر من 25 عاماً، أدت إلى أن تشكل المديونية 93% من إجمالي الناتج المحلي، وأن يصبح هدف الحكومة الأردنية هو خفض هذه النسبة إلى 75% مع حلول عام 2021.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى