رسالة متأخرة إلى غسان كنفاني … / حاتم الشولي
قبل التحرير، وقبل ارتجاف الأيدي على الزناد، فارقت الحياة مبكراً ورحلت عن الوطن مبكراً أيضاً، حملناك كما حملنا كل شهيد إلى ترابه الأخير، وقلنا عند قبرك كل ما قلناه عند قبر كل شهيد، وعدناك كما وعدنا كل الشهداء، وحلفنا باسم الله وباسم فلسطين أننا سنأخذ بثأرك، سنأخذ بثأر كل قطعة من أشلائك التي فجّرها العدو على ظلال الشجر، وعلى شرفات بيروت وعلى حيطان الوطن؛ سنثأر لك يا غسان! ثأر منا الوقت ولم نثأر بعد.
كذبنا حين قلنا عنك أنك استثناء، كذبنا حين قلنا أنك أنت الوطني أكثر منا، كذبنا دوماً في قضيتنا، كنا دوماً الأضعف في ساحة المعركة ولم نكن ثوريين جداً إلا على صفحات الجرائد وعدسات الكاميرات وفي ذكرى تأبينك السنوية، كذبنا دوماً يا غسان لأننا قلنا عنك ما لا يقال وركبنا الموجة باسمك لنتحدث عن بطولاتك لا بطولاتنا، عن كلماتك لا كلماتنا، عن عشقك لا عن قلوبنا.. اعذرنا يا غسان، أنت أكبر منا ومن ثأرنا ومن كلماتنا.
ودعناك كما ودعنا آخر بندقية كانت تحرس شجر البيت، وحملناك إلى ترابك الأخير كما حمّلنا قبل أعوام إلى مخيمنا الأخير، أسقطنا عنك زي الثوري وألبسناك زي الكاتب والعاشق، لتبدو أكثر حضارة.. كذبنا باسم فلسطين وقلنا أنك كاتبها، أنك عاشقها، أنك الوحيد الذي تعرف السكة إلى حجرتها، ولم نقل كم طلقة أطلقت في صدرك من أجل يوم عرسها، لم تذكر قلوب العذارى كم قلبا تناثر في سماء بيروت حين أهدوك قنبلة فجرت مدفعاً كان السبب الرئيسي لأمراض الضغط على ساسة الاحتلال، من كل الصور تبتسم لنا تلك الابتسامة القاتلة وتقول ما لا نسمع “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية”.
فلسطين بيعت في أول مزاد افتتح في مقرات الأمم المتحدة، من كتبت لها أعواماً بالسر وقتلتك عشقاً باعت رسائلك في أول عرضاً قدّم لها لإصدار كتاب يفشي بأسرارك العشقية، أقرباؤك بالدم أصبحوا محللين على شاشات التلفزة حول حياتك، أصدقاؤك الثوار في باريس ولندن يحتفون بذكراك السنوية ويشربون نخب أشلائك التي طوقت مكان التفجير.
هنيئاً لك مكانك، هنيئاً لك استشهادك، رحلت قبل أن ترحل القضية، وودّعت العالم قبل أن تراهم وهم يودعون حدود الوطن في آخر مشهد من المسرحية.
*صحفي أردني